مرافعة سوية في “ملف فساد العشرية”!

ذ.محمدٌ ولد إشدو

﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾
صدق الله العظيم.
﴿وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾.
صدق الله العظيم.
قربا مربِط النعامة مني شاب رأسي وأنكرتني الليالي
قربا مربِط النعامة مني إن بيع الكرام بالشِّـسع غــال
قربا مربِط النعامة مني باح سري وزلـــزلوا زلزالي
لم أكن من جناتها علم اللـــــــه وإني لحــرها اليوم صـــال.
1 مدخل:
سيدي الرئيس،
السادةُ أعضاءُ المحكمة الموقرة،
عندما خرج الرئيس محمد ولد عبد العزيز من السلطة طواعية منتصب القامة، مرفوع الرأس؛ مكرسا بذلكم أول تداول سلمي للسلطة وفق مقتضيات الدستور، ظننا أن بلادنا قد وصلت إلى بر الأمان وسارت على الصراط المستقيم! وأن عهد خلفه سيكون مثل عهده الذي أغلقت فيه أبواب السجون في وجه السياسيين والدعاة إلى الله وأصحاب الرأي والصحفيين، وأن المحاكمات السياسية ستظل معطلة لعدم وجود معتقلين ظلما، وأن بطالتنا – معشر المحامين المدافعين عن الحقوق والحريات- التي سادت في عهده، ستمتد عشرة أعوام أخرى!
ولكن هيهات.. إذ يبدو أننا كنا نسبح في حُلْمٍ جميل لا صلة له بالواقع مع الأسف!
وها نحن عدنا…

سيدي الرئيس،
السادةَ أعضاءَ المحكمة الموقرة،
«إن من البيان لسحرا».. “ومنشدٌ جدلا كقائل جدلا”!
“أنا هنا. بعد [عَقد] من قطيعتنا ألا تمدين لي بعد الرجوع يـــــدا؟
ألا تقولين.. ما أخبارُها سفنــي؟ أنا المسافر في عينيك دون هـدى
حملت من طيبات [الفكر] قافلة وجئت أطعم عصفورين قد رقدا:
(العقل والروح)!
وجئت أحمل تاريخي على كتفي وحاضرا مرهقَ الأعصاب، مضطهدا
ما ذا أصابك؟ هل وجهي مفاجأة وهـل توهمـت أني لــن أعـود غــــدا؟
ما للمرايا.. على جدرانها اختجلت لمـا دخلــت؟ وما للطيــب قــد جَمَــدا؟
يا [كعبة الحق] هل غيري يزاحمني؟ وهل سرير [الهدى] ما عاد منفردا؟
جريدة الرجل الثاني ومِعْطفــــــه وتبغـه لـم يـزل في الصـــحن متقـدا
ما لون عينيك؟ إني لست [أذكره] كأننـي قبــلُ لــم أعرفهمـــا أبـــــدا
إني لأبحث في عينيك عن قدري وعن وجودي. [وإني أرتجي سندا]!
(نزار قباني- الرجل الثاني، بتصرف. الأعمال الكاملة، المجلد الأول ص 434)
ها نحن نعود من جديد، ولا فخر، إلى “سوق عكاظ” بارد.. في ثُكْنة بوليسية، ومن وراء قضبان غليظة إضافية نِشاز، ندحرج، كـ”سيزيف” ملفا ضخما: اثني عشر ألف (12000) صفحة، فاق جميع الملفات الكيدية التي عرفها قضاؤنا عبر تاريخ تسخير العدالة في خدمة أحابيل السياسة ومؤامراتها (ملفات البعثيين والناصريين وفلام والحقوقيين والرئيس محمد الأمين اشبيه، والرئيس أحمد ولد داداه والوزير العالم محمذن ولد باباه والرئيس محمد خونه ولد هيداله وصَحْبه – غراب /grap الخ)، ملفا كبيرا وفارغا “كالطبل يكبر وهو خال أجوف” عطلت فيه أحكام الشرع والدستور، وانتهكت الحقوق، وخرقت القوانين، وديست الحريات، وظلم وأهين وعذب نفر من صفوة أبناء هذا الشعب الأبي الطيب العريق! وبظلمهم وإهانتهم وتعذيبهم هُدِّمت أسس الدولة وصلب الحق وظلم الشعب وأهين واحتقر!
ألم يأن لقواعد الدولة أن ترسخ وتشمخ في بلادنا بعد سن الستين، وللحق أن يتبع، ولشرع الله والدستور والقوانين أن تسود وتكون كلمتُها هي العليا، وللحريات أن تصان، وللظلم أن ينجلي، وللقيد أن ينكسر؟
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
من تقاليد مهنتنا أن يرافع الأحدث انتماء إليها فالأقدم.. ويتجسد هذا غالبا في أن يرافع الشباب أولا ثم يأتي دور الشيوخ! وينسجم هذا التقليد مع حكمة من حكم العرب الذين يقدمون شيوخهم مطلقا إلا في ثلاث: إذا لقوا خيلا، أو سروا ليلا، أو خاضوا نيلا! ولعمري إن الدفاع لكذلكم. وحري بمن يخوض غماره في مثل هذا الموقف أن ينشد قول امرئ القيس بن حُجر:
فيا رب مكروب كررت وراءه وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا.
ويرى بعضهم أن هذا التقليد – رغم نبله- يضر بأداء الشيوخ؛ إذ كثيرا ما لا يترك لهم الشباب من المائدة إلا السؤر (الحيس لؼدح).
لذا لن أطيل كثيرا، وقد لا أضيف جديدا، وسوف أكون في منتهى اللباقة والمرونة والصدق، احتراما لمحكمتكم الموقرة خصوصا، وللقضاء عموما، وللجمهور القليل الذي استطاع تجاوز عقبات صراط ولوج هذه القاعة.. ولكني أيضا سأقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق، فقد تقلص دورنا – نحن المحامين- في عدالة اليوم لنصبح مجرد شهود حسب تعريف إبداعي لزميلنا المبدع الظريف الأستاذ الزعيم ولد همد فال.
وستكون مرافعتي – إن شاء الله – موزعة إلى محاور أساسية هي:
– انعدام وبطلان هذه المحاكمة بقوة نص دستوري سام ومهيمن على جميع القوانين؛ هو المادة 93.
– انعدام وبطلان هذه المحاكمة بسبب انتهاك معايير المحاكمة العادلة وخرق القانون في معظم إجراءاتها.
– كيدية واختلاق الدعوى.
– العسف والتعذيب والتمييز والاضطهاد والاستهداف ضد الرئيس السابق.
– نقاش التهم والبينات والرد على طلبات النيابة بصيغة الجمع.
– خاتمة في القضاء والعدل، وهو أساس الملك..
– ثم الطلبات.

أولا: انعدام وبطلان هذه المحاكمة بقوة نص دستوري هو المادة 93!
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾. والعقود هي العهود. والدستور عقد اجتماعي وثيق، وعهد سام مسؤول!
ومن البديهي أن هذه المحاكمة منعدمة وباطلة من حيث الأساس، ولا أثر لما يصدر عنها أيا كان، إلا أن يكون قرارا بعدم سماع الدعوى لعدم اختصاص القضاء العادي في اتهام ومحاكمة رئيس الجمهورية، ولامتناع مساءلة رئيس الجمهورية – سواء أكان سابقا أم لاحقا- عن غير الخيانة العظمى! وذلك بقوة نص المادة 93 من الدستور التي تقول الفقرة الأولى منها حرفيا: “لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى. لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية”.
اللهم إلا إذا كانت هذه المادة غير موجودة أصلا في دستور 20 يوليو 1991؟ أو كان قد تم إلغاؤها أو تعديلها! ومتى؟ وكيف؟ أو كان في فقرتها التي أدلينا بها أمامكم لبس أو غموض حتى تؤول أو تفسر! ومن طرف من؟ أو إذا كان قانون المرافعات الجنائية الذي اعتمد البرلمان – بموجب استشارة أخرى، وفي عهد الانحطاط تكثر الفتاوى والاستشارات- على المادة 36 منه أساسا لتعهيد القضاء العادي، قد أصبح أسمى من الدستور! أو صار وكيل الجمهورية المتهِم في هذا الملف هو الجمعية الوطنية، وصارت محكمتكم الموقرة هي محكمة العدل السامية! أو كان من صلاحيات القاضي إلغاءُ الدستور!
﴿فأين تذهبون﴾؟
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
إن من أهم الخرافات المؤسسة لهذه الدعوى الكيدية تلك القائلة بمسؤولية رئيس الجمهورية في موريتانيا عن غير ما استثنته الفقرة الأولى من المادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، التي حصرت ما هو مسؤول عنه أثناء ممارسته لسلطاته في الخيانة العظمى فقط. وقد جاء القائلون بهذه الخرافة ببدعة “الأفعال المنفصلة”. وعلى أساسها أجازوا بدعة أخرى هي اتهام رئيس الجمهورية ومحاكمته من طرف القضاء العادي قياسا على الفقه الفرنسي وعلى أحكام الدستور الفرنسي المعدل سنة 2007! مع العلم بأن موريتانيا ليست فرنسا ولا هي تابعة لفرنسا، ولا نريد – أو نتمنى- أن تسير في فلك فرنسا منهارةٍ ومدحورةٍ؟
وقد بينا لمحكمتكم الموقرة، ولمن جاؤوا بهذه الخرافات والبدع، خطأ وخطل ذلك، وشرحناه وفصلناه يوم دفعنا أمام محكمتكم الموقرة بالمادة 93 من الدستور في بداية هذه المحاكمة. وقلنا لكم إن محكمتكم الموقرة لا تملك أي أساس قانوني يخولها محاكمة رئيس جمهورية سابق لديه حصانة دستورية صريحة نصت على عدم مسؤوليته عن غير الخيانة العظمى، ولكون الاختصاص في اتهامه ومحاكمته بها مخولا بالنص الدستوري نفسه للبرلمان ومحكمة العدل السامية؛ وبالتالي، فلا علاقة له البتة بالقضاء العادي، لا من حيث الاتهام ولا من حيث المحاكمة! وطلبنا من محكمتكم الموقرة التصريح في أول وهلة ببطلان مساءلة موكلنا، وبامتناع اتهامه ومحاكمته من طرف القضاء العادي!
وكان حريا بمحكمتكم الموقرة أن تثير هذا الدفع من تلقاء نفسها، قبل أن يثيره الدفاع، لتعلقه بالنظام العام.. بدل أن تتعامى وتتصامم عنه وتضمه إلى الأصل. الأمر الذي لا يجوز إجرائيا، إضافة إلى كونه إمعانا في انتهاك الدستور، والتمادي في حبس واضطهاد وإهانة ومحاكمة من ليست قاضيهم الطبيعي!
وقد أشبع زملائي الأعزاء هذه المسألة بحثا وتمحيصا وتوضيحا في مرافعاتهم السنية أمام محكمتكم الموقرة، حتى أصبحت كالشمس في رابعة النهار. وكنت قد قمت بدوري بالتصدي لجلْيِها بصفتها حجر الزاوية في هذا الملف؛ وذلك في عمل تطرقت فيه لثلاثة آراء متداخلة في الموضوع، هي: ما جاء في استشارة الأستاذ الفاضل الدكتور محمد محمود ولد محمد صالح حول الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية، والنقطة الخامسة من بيان تعهد الستين محاميا، ورأي الأستاذ النقيب السابق، واختتمت الحديث بنشر نص تلك المادة العنيدة التي يتحاشى دفاع النيابة ذكرها. وهذه بعض أجزاء ذلك العمل:
استشارة الدكتور والأستاذ الجامعي والمحامي الفاضل محمد محمود ولد محمد صالح
توجد هذه الاستشارة منشورة بترجمة عربية غير دقيقة لا تخلو من تحريف في موقع الأخبار بتاريخ 17 يوليو 2020 تحت عنوان “الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية السابق: عناصر توضيحية”. كما يوجد أصلها الفرنسي منشورا بالتاريخ نفسه في موقع Cridem وفي le calame وترد في مدخلها تساؤلات تنبئ عن هدفها ومآلاتها المحددة سلفا، تقول: “ما هو الوضع القانوني لرئيس جمهورية سابق؟ هل يتمتع بحصانة بخصوص الأفعال التي تمت في إطار ممارسة الوظيفة الرئاسية، وإذا كان الجواب بنعم، ما هي طبيعة وحدود هذه الحصانة؟ هل يتوفر على امتياز قضائي قد يحول دون محاكمته أمام المحاكم العادية؟ أم إنه مجرد مواطن كبقية المواطنين، مسؤول عما ارتكب من أفعال، في نفس الأوضاع كباقي المتقاضين؟ هل يجب التمييز أم لا يجب حسب طبيعة الأفعال التي قام بها خلال مأمورياته؟”. ثم يُختتم المدخل بملاحظتين من العيار نفسه هما:
أ. أنه “لا توجد في القانون الموريتاني – المقتبس مباشرة من القانون الفرنسي السابق على المراجعة الدستورية في 23 فبراير 2007 (في فرنسا) التي أوضحت الوضع الجزائي لرئيس الجمهورية- نصوص خاصة بالوضع القانوني والقضائي لرئيس سابق. فالوضع القانوني لهذا الأخير يحدد بالرجوع إلى الترتيبات الدستورية المتعلقة بمسؤولية الرئيس الموجود في السلطة، من ناحية، وإلى المبادئ العامة للقانون، من ناحية أخرى” (خطا التشديد منا).
ب. ارتباط البحث (في بعض أجزائه على الأقل) “بالسياق الحالي الذي يتسم بالبحث المحتمل عن مسؤولية رئيس الجمهورية السابق”. (خط التشديد منا أيضا)!
فالهدف من الاستشارة إذن – وباعترافها- لم يكن مجرد البحث عن الوضع القانوني لرئيس جمهورية سابق، بقدر ما كان العملَ على إباحة وتسويغ متابعة رئيس الجمهورية السابق المبيتة سلفا!
وتتكون هذه الاستشارة (ويسميها معدها أيضا “بحثا” و”مساهمة”) من ثلاثة عناوين هي: نقطة الانطلاق، وتعالج الترتيبات الدستورية المتعلقة بمسؤولية رئيس الدولة وهو يمارس السلطة، ومقتضيات تلك الترتيبات؛ المبادئ العامة للقانون كمرجع تكميلي؛ وبعض الاعتبارات المرتبطة بسياق البحث عن إمكانية متابعة رئيس الجمهورية السابق.
نقطة الانطلاق: الترتيبات الدستورية حول مسؤولية رئيس الدولة وهو يمارس السلطة، وما يترتب عنها.
ويشغل هذا العنوان أزيد من نصف الاستشارة (4/7) وهو خلاصتها؛ وفيه “قولان”:
القول الأول: “بمقتضى المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991 لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعال قام بها في إطار ممارسته لوظائفه إلا في حالة الخيانة العظمى. ولا يمكن اتهامه إلا من قبل غرفتي البرلمان اللتين تبتان عبر تصويت مطابِق لأعضائهما في اقتراع علني وبالأغلبية المطلقة… وتتم محاكمته من طرف محكمة العدل السامية. ويشكل هذا النص نقلا حرفيا لنص المادة 68 من الدستور الفرنسي الصادر سنة 1958، وقد بقي دون تعديل حتى صدور القانون الدستوري رقم 022 – 2017 الذي صدر بعد إلغاء مجلس الشيوخ فأَبْدَل في الفقرة الثانية كلمة غرفتي البرلمان بكلمة الجمعية الوطنية. حيث يمكن أن نقول إنه في الجوهر بقي النص كما هو.
إن عدم المسؤولية القانونية للرئيس عن الأفعال التي تتم خلال ممارسته لوظائفه؛ باستثناء حالة الخيانة العظمى، تستجيب عادة للحرص على حماية الوظيفة الرئاسية وتسهيل حرية تصرف صاحبها. وتُكَمَّلُ بعدم مسؤوليته السياسية أمام البرلمان. وفي نظامنا شبه الرئاسي، فلا الرئيس مسؤول من الناحية السياسية إلا أمام الشعب. بخلاف الحكومة (الوزير الأول والوزراء) ولا هو ملزم بأي شيء أمام البرلمان الذي لا يمكنه أن يستدعيه ولا أن يوجه إليه تحذيرا. وعليه فإن ما يصدق على البرلمان يصدق بالأحرى على الهيئات المنبثقة عنه، وبشكل خاص لجان التحقيق البرلمانية”.
وتجب الإشارة هنا إلى أن مستند هذا القول هو نص المادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، المستشير المفترض. ومن المعلوم بالضرورة أن الدستور هو ميثاق الأمة وقانونها الأسمى! (وإلى هنا فكل شيء صحيح وواضح).
لكن، بما أن نص المادة 93 من الدستور الموريتاني ينفي نفيا باتا، حسب ما جاء في هذا القول، مسؤولية رئيس الجمهورية عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى، ويمنع منعا قاطعا اتهامه في حالة الخيانة العظمى إلا من طرف أغلبية أعضاء الجمعية الوطنية المطلقة المعبر عنها عن طريق الاقتراع العلني؛ وأن يحاكم في هذه الحالة من غير محكمة العدل السامية. الأمر الذي يتعارض تماما مع هدف الاستشارة المعلن في مدخلها: “إمكانية مساءلة رئيس الجمهورية السابق”. فقد بادرت الاستشارة بالقول في الفقرة الموالية منها مباشرة لحكم الدستور الصريح، وكأنها تريد نسف النص الدستوري من أساسه، أو توهم المتلقي بتعلقه بمجال آخر في بلد آخر (بانما مثلا): “ومع ذلك فالنص الدستوري لا يقدم أجوبة مباشرة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بمسؤولية رئيس الجمهورية. إذ تحصر المادة 93 من الدستور الموريتاني، كنموذجه الفرنسي، عدم مسؤولية رئيس الجمهورية في “الأفعال المقام بها أثناء ممارسته لسلطاته باستثناء الخيانة العظمى”!
وانطلقت من فرضية وجود فراغ تشريعي لا وجود له، تبحث خارج التشريع الموريتاني الذي لا يجوز لها تجاوزُ حدوده البتة، عما تلغي به أحكام المادة 93 من الدستور، وتسوّغ به متابعةَ رئيس الجمهورية على أفعاله أثناء ممارسة سلطاته، واتهامَه ومحاكمتَه من قِبَلِ القضاء العادي. ويبدو أنها وجدت ضالتها المنشودة في التذرع بدعوى استنساخ المادة 93 من الدستور الموريتاني “كلمة كلمة” من المادة 68 من الدستور الفرنسي؛ وأن ما يجوز على المثل يجوز على مماثله، فقالت: “وبما أنه (أي نص المادة 93 من الدستور الموريتاني) مجرد استنساخ، كلمة كلمة، من المادة 68 من الدستور الفرنسي، فإنه من الضروري التذكير بكيف تم تأويل هذا النص الأخير من طرف الفقه القانوني والقضائي في فرنسا”. ثم قامت بإرساء مؤشر بحثها على تفضيل وترجيح تأويلات الفقه القانوني والقضائي في فرنسا للمادة 68 من الدستور الفرنسي، وما حظي به ذلك من تكريس في تعديل 23 فبراير 2007 للدستور الفرنسي، على النص الدستوري الموريتاني، وقالت به تشريعا بديلا ناسخا لأحكام المادة 93 من الدستور، وحلا لـ”الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية السابق”: موضوع الاستشارة! وذلك رغم الموانع الجمة، ورغم الفروق الشاسعة بين البلدين وبين المجتمعين، سياسيا واجتماعيا وتاريخيا وثقافيا! فجاء القول الثاني.
القول الثاني: “وهذا يقتضي بمفهوم المخالفة أن رئيس الجمهورية مسؤول عن جميع الأفعال الأخرى التي لم يجر القيام بها “في ممارسته الوظيفة الرئاسية”. وينطبق ذلك، ليس فقط على الأفعال الخصوصية البحتة (أفعال الحياة المدنية. الشؤون الخاصة) لكن أيضا – وبالأخص- على الأفعال المقام بها بصفته رئيسا للجمهورية، لكنها يمكن فصلها عن الوظيفة الرئاسية نفسها بسبب مضمونها أو غايتها. فالفقه مجمع – كما أشار إلى ذلك بحق صديقي وزميلي لو كورمو في مداخلاته الأولى – على اعتبار أن الأفعال المنفصلة ليست مشمولة بمبدأ عدم المسؤولية، وأن الرئيس مسؤول من الناحية القانونية والشخصية عن تلك الأفعال.
وتُمَيِّز غرفة الجرائم بمحكمة النقض الفرنسية بهذا الخصوص منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، فيما يتعلق بممارسة الوظيفة الوزارية، بين الأفعال التي لها علاقة مباشرة مع إدارة شؤون الدولة، والتي تبرر اختصاص محكمة عدل الجمهورية (محكمة العدل السامية عندنا) والأفعال الأخرى، وخصوصا الأفعال المقام بها فقط بمناسبة ممارسة الوظيفة الوزارية؛ والتي هي خاضعة للقانون العام.
ويمكن أن يدخل في إطار هذه الأفعال كل ما يتعلق بالإثراء غير الشرعي أو بالفساد. وفي المحصلة فإن رئيس الجمهورية مسؤول بالتأكيد شخصيا عن الأفعال المقام بها أثناء مأموريته ولكن التي تكون قابلة للفصل عن الوظيفة الرئاسية. لأنها تم القيام بها بمناسبة ممارسة الوظيفة الرئاسية لكن بهف آخر غير تسيير الشأن العام.
هذا هو تأويل المادة 68 من الدستور الفرنسي، مصدر المادة 93 من دستورنا، الذي انتهى به المطاف إلى أن فرض نفسه، والذي كرسه بقوة وتفصيل إصلاح 2007″ (في فرنسا).
فما لي ولسليم؟
وبترجيح الاستشارة لهذا القول الثاني “الذي انتهى به المطاف إلى أن فرض نفسه؛ والذي كرسه بقوةٍ وتفصيل إصلاحٍ 2007” على حساب القول الأول المنصوص في دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، نكون قد استوردنا بواسطتها من معامل (Manufactures) الفقه القانوني والقضائي والتشريع في فرنسا، سلعتي “الأفعال المنفصلة” و”اختصاص القضاء العادي” في اتهام ومحاكمة رؤساء موريتانيا السابقين واللاحقين عليها، ومن قبلهما “لجنة التحقيق البرلمانية” التي ما أنزل الله بها من سلطان!
ذلكم هو ملخص ما جاء في العنوان الأول من الاستشارة. أما العنوانان الثاني والثالث، فقد خصصا لتعليل أحكام القول الراجح فيها، والتبشير بفوضى عارمة هي “أن الاتجاه العام اليوم في القانون المقارن هو “الحد من مجال الحصانات التي تعتبر أمرا غير طبيعي يتعين إنهاؤه في دولة القانون” وأنه بخصوص محاكمة محتملة للرئيس “تتعلق بتملك (مفترض طبعا) غير شرعي لأموال عمومية، فإن الصلاحيات التي يتوفر عليها القضاء العادي (مداهمات، حجز، استرداد… إلخ) هي أكثر شمولية مما هو ممنوح لمحكمة العدل السامية”.
وقد شكلت هذه الاستشارة – أو الرأي- بكل بساطة رأس الخيط في هذه الدعوى لأنها هي التي أسست ونظرت لهذه المتابعة المخالفة لصريح أحكام الدستور الموريتاني، وهي التي أمْلت كذلكم أكثر إجراءاتها تعسفا بما فيها “الصلاحيات التي يتوفر عليها القضاء العادي (مداهمات، حجز، استرداد…) التي هي أكثر شمولية مما هو ممنوح لمحكمة العدل السامية”.
ويمكن تلخيص المآخذ عليها فيما يلي:
إن الاستشارة القانونية التي هي إعطاء رأي قانوني من طرف رجل قانون مختص، انطلاقا من النصوص القانونية المعمول بها، وبناء على طلب شخص يرغب في الوقوف على وضع قانوني معين، تتطلب توفر جملة من المميزات والشروط من أهمها:
1. أن يكون المستشار مختصا في موضوع الاستشارة.
2. أن تكون الاستشارة خلاصة دراسة وتحليل موضوعيين ومتأنيين للقواعد القانونية المعمول بها. إذ الاستشارة هي بيان حكم القانون في الواقعة المحددة وفق القواعد القانونية التي تنظمها!
3. أن تقدِّم الاستشارة حلا قانونيا واضحا وصريحا في الموضوع. فلا تجامل ولا تداهن، ولا تُدخِل طالبَها في متاهات ومطبات غير قانونية ووخيمة العواقب!
4. أن يلتزم المستشار الحياد، والصراحة، والجد في البحث والتحليل، ويبتعد كل البعد عن المشاعر والعواطف، ويتوخى الإفادة.
وإذا حكَّمنا هذه القواعد فسوف نرى أن من أهم سمات هذه الاستشارة:
– عدم اختصاص معدها وقدوتِه – صديقه وزميله الذي استرشد بأقواله- في الموضوع الذي استشير فيه. ولا يُقلّل هذا القول بحال من الأحوال من فضل ومكانة الأستاذ الدكتور والمحامي العلمية التي سارت بها الركبان. غير أن مكانته العلمية، والنزاهة الفكرية كانتا تفرضان عليه أن يستنكف عن تقديم استشارة قانونية في غير مجال اختصاصه؛ وأن لا يُقَلّد غيره فيما اجتهد هو فيه! فذلك أقرب للتقوى.
– أنها ليست “استشارة قانونية” بل هي رأي شخصي خاص، واجتهاد فيما لا يجوز فيه الاجتهاد. ذلك أن كل رأي أو حل يعطى دون استناد إلى النصوص القانونية المعمول بها، ودون أن يكون زبدة دراسة وتحليل موضوعيين متأنيين لتلك القواعد، إنما هو رأي شخصي، ولا يدخل بصفة من الصفات ضمن قواعد الاستشارة القانونية. وبديهي أن ما ذهبت إليه هذه الاستشارة من أحكام حول “الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية” مخالف تماما لأحكام الدستور الموريتاني. وأن الشعب الموريتاني قد شرَّع في دستوره، بصورة صريحة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، قواعد قانونية نص فيها وحدد “الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية”. وما يزال هذا النص الدستوري قائما لم يلغ ولم يُعَدَّل. وكان من واجب الاستشارة القانونية التقيدُ التام بنص دستور بلدها! وبإخلالها بذلك الواجب تكون فضولا أو مجرد رأي شخصي.
– أن “الاستنتاج بمفهوم المخالفة” (le raisonnement a contrario) الذي توصلت إليه الاستشارة كان في غير محله. فالقول “بمفهوم المخالفة” لا يجوز في ظل وجود نص صريح. وإذا افترضنا جوازه فلا بد أن يكون النص قد منع عملا قانونيا معينا وسكت في شأن عمل آخر. فيمكن عندها، انطلاقا من قراءة معكوسة للنص الوارد، استنتاج قاعدة تحدد الحكم الغائب! ونص المادة 93 من الدستور الموريتاني نص كامل وواف، لم يسكت عن شيء!
– وحتى إذا نظرنا إلى هذه الاستشارة من باب مبدأ المصالح المرسلة: جلب مصلحة أو دفع مفسدة. فلن نجد لها صلة به للاعتبارات التالية:
أ. أنها ألغت مناسبا معتبرا (مصلحة معتبرة) اعتبره المشرع وشرع أحكام المادة 93 من الدستور لتحقيقه.
ب. أنها شرَّعت بفقهٍ وتشريعٍ أجنبيين مناسبا ملغى (مصلحة ملغاة) ألغاه المشرع ولم يعتدَّ به بنص المادة 93 من الدستور.
ج. أضف إلى ذلك عدم دخولها أصلا في هذا الباب، لكونه إنما يدخل فيه حصرا المناسبُ المرسل (المصالح المرسلة) وهو معنى لم يقم الدليل الشرعي المعين على اعتباره أو إلغائه، وسُكت عنه.
– ثم إن من مميزات الاستشارة القانونية الأساسية مراعاةُ الموضوعية والصدق والصراحة، والتجرد والابتعاد عن العواطف والميول الذاتية وتغليبِ المصلحة الشخصية. وهي أمور قد لا تتوفر كلها في هذه الاستشارة؛ لا بسبب ما ذهبت إليه من مخالَفَةٍ لدستور وقوانين البلاد، ومن تقليد ونقل حرفي لقوانين أجنبية فحسب؛ بل بسبب اعتمادها أيضا على قول خصم سياسي مجاهر بالعداوة، هو الأستاذ لو غورمو الذي أعلن يومها على أثير “بي بي سي” “نحن (حزب اتحاد قوى التقدم) من دعا إلى تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية، ونسعى بها فعلا إلى تصفية الحسابات مع ولد عبد العزيز الذي لم يكفَّ خلال عشريته عن تصفية حساباته معنا؛ ولم يلتحق نواب الأغلبية بدعوتنا إلا بعد انفجار أزمة المرجعية”.
– وما يزيد أمر هذه الاستشارة غرابة هو نشرها الواسع – عند صدورها- في وسائل الإعلام، والعمل بها تلقائيا كعقيدة قانونية لوزارة العدل ولفيف محاميها، أُسِّست عليها ترسانة المتابعة التي تعرض لها رئيس الجمهورية السابق محمد ولد عبد العزيز ظلما. وذلك دون معرفة الجهة التي طلبتها، والموضوعِ الذي حددته تلك الجهة وطلبت حوله استشارة من المستشار، والمعلومات التي زودته بها حول موضوع الاستشارة الخ.. وكلها أمور إلزامية في عملية تقديم الاستشارة القانونية. والأدهى من ذلك كون هذه الاستشارة المخالفة لصريح نص الدستور الموريتاني، قد عُمِل بأحكامها فور صدورها دون أن يجري حولها استفتاء شعبي، أو تعرض – على الأقل- على مصادقة الهيئة التشريعية في البلاد!

النقطة رقم 5 من بيان “تعهد” دفاع النيابة

تقول هذه النقطة ما يلي: “إن الجدل المثار حول حصانة السيد رئيس الجمهورية السابق، التي استند القائلون بها على مقتضيات المادة 93 من الدستور جدل محسوم نهائيا؛ ذلك أن هذه الحصانة تنتهي مع انتهاء مأمورية السيد الرئيس، فهي ليست حصانة مرتبطة بشخصه؛ بل بوظيفته. وعليه يكون تحريك الدعوى العمومية في حقه بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما”.
ورغم “بساطة” هذا النص “ذي الوضوح الكاذب” هو الآخر، فإننا لن نلجأ إلى تأويله بما لا يحتمله، ولا “بمفهوم المخالفة” أو غير ذلك من أقوال “الفقهاء” من أمثال الأستاذ جان افوايي (Jean Foyer) بل سنقتصر في عجالة على ما تَرْشَحُ به فقرات النص الثلاث؛ وهي: حسم الجدل حول الحصانة. وانتهاء الحصانة بانتهاء مأمورية الرئيس لعدم ارتباطها بشخصه؛ بل بوظيفته. وكون “تحريك الدعوى العمومية في حقه بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما”.
– حَسْمُ الجدل حول الحصانة. من – يا ترى- حسم الجدل حول الحصانة؟ هل حسمه المجلس الدستوري؟ أم المحكمة العليا؟ أم إحدى درجات القضاء مهما كان نوعها؟ وبماذا تم حسمه، وعلى أي أساس من القانون الذي “هو التعبير الأسمى عن إرادة الشعب ويجب أن يخضع له الجميع” حسب ما نصت عليه المادة 4 من الدستور؟ الجواب هو لا! فالذي حسم الجدل هو دفاع النيابة.. “الطرف المدني” المدعي! وحَسَمَه في 25/10/2020 تمهيدا لتحريك دعواهم المزمع تحريكها.. ومع حرص شديد على حجب نص المادة 93 من الدستور “التي استند القائلون بالحصانة على مقتضياتها” حسب اعترافه! وعلى هذا الأساس، فإن القول بحسم الجدل حول حصانة الرئيس السابق قول باطل، ومجرد دعوى مدع، وهروب إلى الأمام من قبضة المادة 93 من الدستور والمستندين عليها، ومحاولة غير موفقة لوأد تلك المادة العصية العنيدة! لكنه – على جميع علاته الصارخة- قول قال به ستون 60 محاميا يتقدمهم جميع نقباء هيئة المحامين السابقين الممارسين!
– انتهاء الحصانة بانتهاء مأمورية الرئيس لعدم ارتباطها بشخصه؛ بل بوظيفته. لقد وردت “نظريات” كهذه ضمن الاستشارة المذكورة التي يمتاح منها متكلمو دفاع النيابة حججهم بتصرف! فما مدى صحة هذا القول؟ إنه خليط من حق وباطل أريد به باطل! فالحصانة المسطورة في المادة 93 من الدستور؛ والتي بموجبها لا يساءل “رئيس الجمهورية عن أفعاله أثناء ممارسته لسلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى” لا تنتهي بانتهاء مأموريته كما زُعِم؛ والقول بذلك سذاجة واحتقار لعقول الناس. بل تظل قائمة إلى أبد الآبدين، وهي مرتبطة بشخصه كشاغل لمنصب رئاسة الجمهورية على مدى مأموريتيه. وعندما تنتهي مأموريته الأخيرة ويترك شغل هذا المنصب فإنه يصبح مسؤولا عن أفعاله اللاحقة مثل سائر المواطنين! وهذا ما سوف يتضح من نص المادة 93 نفسها. وهو ما يحاول دفاع النيابة طمسه بعبارات مطاطة لا أساس لها من الحق والقانون!
– كون “تحريك الدعوى العمومية في حق الرئيس بعد انتهاء مأموريته أمام المحاكم العادية أمرا واردا تماما”. لا شك في أن تحريك الدعوى العمومية في حق رئيس الجمهورية أمام القضاء العادي فيما جناه بعد انتهاء مأموريته ليس “أمرا واردا تماما” فحسب؛ بل هو أمر تنص عليه جميع القوانين بصفته أصبح مواطنا عاديا! لكن دفاع النيابة لا يعني بعبارة “أمرا واردا تماما” هذه الحالة البديهية؛ بل يعني تحريك الدعوى ضد الرئيس المنتهية ولايته أمام القضاء العادي على أفعاله خلال مأموريتيه؛ خلافا لصريح نص المادة 93 من الدستور التي يتجنب ذكر نصها! ولعل القائمين على مشروع دفاع النيابة يريدون بهذا القول التملص من أحكام الدستور و”التأسيس” باطلا لمساءلة الرئيس السابق – واللاحق أيضا- أمام القضاء العادي! وذلك لحاجة في أنفسهم، حتى لا يجرؤ رئيس بعدها على مناوأة الفساد، فضلا عن التطاول عليه ومحاربته!

3. موقف السيد النقيب

يتلخص موقف النقيب – كما رأينا عبر مداخلاته- في ثلاثة أمور أساسية هي:
– اعترافه بوجود “المادة 93 من الدستور التي فعلا سُنَّتْ أصلا لحماية رئيس الجمهورية في إطار مهامه” رغم تحاشيه ذكر نصها.
– تبني نظرية “الأفعال المنفصلة” التي جاء بها منظرَا دفاع النيابة قياسا على ما في الدستور والفقه الفرنسيين.
– أن الرئيس السابق (وربما اللاحق أيضا) ارتكب جرائم تخالف نص تلك المادة! ويقول في ذلك: “لكن عندما يخرج عن إطار مهامه الدستورية وتْعودْ لا علاقة لها بالشأن العام وتكون قضايا تتعلق بالرشوة والثراء الفاحش وتبييض الأموال. هذا النوع من القضايا ليست له صبغة سياسية”.
وفيما عدا بطلان نظرية “الأفعال المنفصلة” التي لا علاقة للدستور والقانون والفقه في موريتانيا بها، فإن أخطر ما في موقف النقيب هو كون الحَكَم فيه والقاضي هو هو! فالنقيب هو الذي يكيل التهم جزافا، وهو الذي يحكم، ويجرد من الحصانة بموجب الجرائم التي يدعي ارتكابها دون أن يملك أدنى بينة عليها؛ وهو الذي يشرع نظرية “الأفعال المنفصلة” ويطبقها! وهو الذي يحدد إطار مسؤولية رئيس الجمهورية!
وهنا يجوز لنا أن نتساءل: أولا يدري نقيب المحامين الموريتانيين أن المادة 93 من الدستور لا وجود فيها للأفعال المنفصلة، ولا تتطرق إليها بحرف واحد على الإطلاق، وأن هذه المادة لم يجر على أحكامها أي تعديل منذ 20 يوليو سنة 1991 إلى يومنا هذا؛ بخلاف المادة 68 من الدستور الفرنسي التي يقيسونها عليها مع وجود فارق؟ وأن الدستور الموريتاني في مادته 13 التي صاغها المشرع في قانون الإجراءات ينص على أن “كل شخص تم اتهامه أو متابعته يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بقرار حائز على قوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية”؟ أم إنه يدري ذلك ويتجاهله، ولماذا؟

ثانيا: ماهية المادة 93 من الدستور الموريتاني

إن نص المادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية هو التالي: “لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى. لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية.
الوزير الأول وأعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا عن تصرفاتهم خلال تأدية وظائفهم، والتي تكيف على أنها جرائم وجنح وقت ارتكابها، وتطبق عليهم الإجراءات المحددة أعلاه في حالة التآمر على أمن الدولة، وكذلك على شركائهم.
وفي الحالات المحددة في هذه الفقرة، تكون محكمة العدل السامية مقيدة بتحديد الجرائم أو الجنح وكذا تحديد العقوبات المنصوص عليها في القوانين الجنائية النافذة وقت وقوع تلك الأفعال”.
إن هذا النص الصريح الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار يتكون من ثلاث فقرات سنتناول أولاها لعلاقتها بالموضوع؛ وهي التي تتعلق بحصانة رئيس الجمهورية، أو “الوضع القانوني” له كما تقول الاستشارة، وتتكون من ثلاثة بنود هي:
– أن رئيس الجمهورية لا يكون مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى!
– وأنه لا يتهم إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها!
– وأنه تحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية!
أما الفقرتان الثانية والثالثة، فتتعلقان بالوضع القانوني المختلف للوزير الأول وأعضاء الحكومة، وتضعان بوضوح وتفصيل كل الضمانات الكفيلة بحماية حقوقهم، وتمنحانهم امتيازا قضائيا يجعلهم في منأى عن القضاء العادي!
فأين ما يجري الآن من تهم باطلة، ومن متابعات تعسفية ظالمة ومعتدية، وحبس جائر وشيطنة واضطهاد، واستشارات واجتهادات وفتاوى “قانونية” مما نصت عليه المادة 93 من الدستور بكل صراحة ووضوح؟!!
وقبل أن ننهي الحديث في هذه المسألة، نريد أن نعلق على نصيحتين ثمينتين قدمهما إلينا بعض زملائنا في دفاع النيابة؛ وهما أنه كان علينا أن نطرح دستورية المادة 93 على المجلس الدستوري. ولعلهم يريدون من وراء ذلك جعلنا أغبياء حين نسأل المجلس الدستوري عما إذا كانت مادة من الدستور دستورية؟ والثانية هي أن نطعن في دستورية المادة 2 من قانون الفساد. وذلك ليؤكد المجلس الدستوري دستوريتها، ونكون بطعننا قد أنشأنا رابطة بيننا وبينها! في حينَ أنه لا علاقة لنا بتلك المادة! فنحن لا ندافع عن موظف عمومي؛ بل ندافع عن رئيس جمهورية تحصنه المادة 93 من كل مساءلة. وتحظر عليه المادة 27 من الدستور ممارسة أي وظيفة عمومية! فشكرا لزملائنا! وإن كان الأحمق في شأنه أدرى من العاقل في شأن غيره!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى