لنضمد هذه الجراح
العنف الذي قوبل به تطلع بعض شبابنا إلى الاستفادة من حق يفترض أن يكون طبيعيا شرعا وقانونا وعرفا، هو حقهم في مواصلة دراستهم… عنف لا يليق بنا.
لا يليق بنا لأننا أبناء ملة جعلت طلب العلم وبذله فريضة، وكان خطابها السماوي المؤسس {اقرأ باسم ربك}، وكان من شعاراتها الخالدة التالدة “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”. أمة لو أنها وضعت متاريس عمرية على طريق طلبة العلم لما أنجبت الكسائي ولا ابن حزم ولا العز بن عبد السلام ولا المختار ابن بونه، وأمثال هؤلاء ممن قيل إنهم لم يطلبوا العلم إلا على كبر.
لا يليق بنا لأن كل أمجادنا بنيت على طلب العلم وبث العلم، ولأننا ما نزال نفاخر بأننا ندرس وندرّس على ظهور العيس، ولأنه لا محل في ثقافتنا وقيمنا لطرد طالب العلم عن الكروع في حياضه.
لا يليق بنا لأن الشباب المطالبين بحقهم في الدراسة لم يشغبوا فيما علمنا، ولأن آخر الدواء الكي ولأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.
لا يليق بنا لأن التعليم ومكافحة الغبن الاجتماعي كانا ركيزتين أساسيتين في برنامج رئيس الجمهورية وهو يحتاج منا، من أجل تطبيق هذا الشق من البرنامج، إلى مؤازرة بالأقلام والأفكار والحلول الذكية والعطايا السخية، لا بالعصي والهراوات.
لا يليق بنا لأننا في مرحلة اتخذت (تهدئة المناخ السياسي) عنوانا من عناوينها. ومن واجبنا جميعا أن نتعاون على ذلك ونعمل على سد منافذ الفتنة ونتقي الوقوع في الفخاخ التي تنصب في الطريق خطأ أو عمدا.
لا يليق بنا لأننا – وإن كان لنا فيما تقدم كفاية – موقعون على مواثيق دولية تعتبر الحق في التعليم حقا أساسيا من حقوق الإنسان، ولأن دستورنا ينص على ذلك.
لا يليق بنا لأن أمما أخرى لا تفاخر بالتدريس على ظهور العيس ولا يشكل بث العلم ولا طلبه فيها واجبا شرعيا أبديا، لم تضع سقوفا عمرية لمنع أبنائها من الالتحاق بالتعليم الجامعي النظامي. في دراسة شملت 26 بلدا أوربيا نشرت جريدة لوموند الفرنسية بعض نتائجها قبل بضع سنين تبين أن متوسط عمر الطالب الجامعي في مرحلة الليسانس هو 26.6 سنة في الدنمارك و26 في بريطانيا و25.5 في السويد، وكشفت الدراسة أن 40% من الطلبة في الدنمارك لا يلتحقون بالدراسة الجامعية إلا بعد سنتين من حصولهم على البكالوريا. وفي دراسة نشرتها جامعة جنيف تبين أن 15.5% من طلاب الجامعة تتراوح أعمارهم بين 25 و29 سنة، وأن 5.4% تبلغ أعمارهم 35 سنة فما فوق. وهي تقريبا نسبة الفئة العمرية (30-34 سنة) في التعليم الثانوي المهني. وفي دراسة أخرى نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) تبين أن سن الحصول على أول شهادة جامعية تصل في بعض الدول الأعضاء إلى 35 سنة (حالة إيسلندا). وفي عام 2016 حصل الطالب الياباني Shigemi Hirata وهو في السادسة والتسعين من عمره على شهادة الليسانس من جامعة كيوتو.
وتلك قيم وتقاليد كنا أحق بها وأهلها!
هل هي مسألة إمكانيات وطاقة استيعاب؟
حتى هذه – على فرض أنها السبب – لا تسوغ ما حصل.
إن صحت المعلومات المتداولة، فإن عدد الطلبة الذين كانوا في نفس الموقف العام الماضي (نحو 1400) يساوي ضعف عدد نظرائهم هذا العام (أقل من 700)، وقد عولجت مطالب أولئك ورتبت لها أو لبعضها حلول، فما المانع من معالجة مطالب هؤلاء؟ والحال أنهم أقل عددا وأن الناجحين في الثانوية العامة هذا العام أقل عددا أيضا، وفي ذلك ما يقتضي أن يكون الازدحام على مقاعد الدراسة هذا العام أقل منه العام الماضي.
أيا يكن الأمر، فإننا، وقد وقع ما وقع، بحاجة ماسة إلى أن نتبع السيئة الحسنة لعلها تمحوها.
الجراح النازفة من بعض شبابنا تتطلب ضمادا من نوع مختلف: مقاعد للدراسة، وتدابير احترازية مستقبلية تمنع تغول العصا على القلم والسوط على الحلم.