كتاب يكشف “نهاية الأسرار” في قضية اختفاء المعارض المغربي المهدي بن بركة

بعد ستة عقود من الغموض، يعيد الصحافيان ستيفن سميث ورونين بيرغمان في كتابهما الجديد “قضية بن بركة: نهاية الأسرار”، فتح ملفات طُمست في دهاليز أجهزة الاستخبارات. فيما زعما بأن “الموساد الإسرائيلي كان طرفا حاسما” في اختطاف المعارض المغربي بالتنسيق مع عناصر من “الأمن المغربي والشرطة الفرنسية”.

في مقهى هادئ قرب جادة الشانزليزيه بباريس في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1965، جلس رجلان يتبادلان أحاديث لم تكن عادية. أحدهما أحمد الدليمي، نائب المدير العام للأمن الوطني المغربي الذي كان يحمل الاسم الحركي “ألبير”، والآخر عميل إسرائيلي يحمل اسم “ميفوراش”. كان الدليمي قد خرج لتوّه من ليلة دامية. وهي ليلة تصفية المهدي بن بركة، المعارض المغربي الذي اختُطف قبل أيام من أمام مطعم “ليب” الباريسي الشهير. وبكل برودة أعصاب، روى الدليمي لمحدثه الإسرائيلي تفاصيل مروعة: “لقد أغرقوا بن بركة في حوض الاستحمام. بعد ذلك، التقطتُ صورة له، ليصدقوا في المغرب أن العملية قد انتهت حقًا”. وأضاف مازحاً، كما لو كان يروي حكاية عادية.

هذا المشهد المرعب ليس من نسج الخيال، بل هو واحد من الأسرار الصادمة التي تحدث عنها كتاب “قضية بن بركة: نهاية الأسرار”، الذي سيصدر يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2025 عن دار “غراسيه” الفرنسية للنشر، في الذكرى الـ60 لاختفاء الزعيم الثوري المغربي.

الكتاب من تأليف الصحافيين الاستقصائيين ستيفن سميث، المتخصص في الشؤون الأفريقية في صحيفة “لوموند”، ورونين بيرغمان، الخبير في قضايا الاستخبارات من “نيويورك تايمز” و”يديعوت أحرونوت”. يحتوي على 576 صفحة من التحقيقات الموثقة والأرشيفات السرية التي ظلت حبيسة الظلام لعقود.

عملية “إيترنا”
الجديد في هذا الكتاب ليس مجرد “تأكيد تورط الموساد الإسرائيلي” في القضية، وهو ما أُشير إليه سابقا في تقارير متفرقة، بل الكشف المفصّل والموثق عن الدور المحوري الذي لعبه جهاز المخابرات الإسرائيلي “من البداية حتى النهاية”، كما تصفه صحيفة “لوموند” الفرنسية.

الوثائق السرية التي اطّلع عليها المؤلفان تكشف عن عملية تحمل الاسم الرمزي “إيترنا” (Eterna). وتُظهر بالتفصيل “حجم التنسيق الوثيق بين الموساد والجهاز الأمني المغربي، بل وصولا إلى الملك الحسن الثاني شخصيا”.

وتشير أسبوعية “باري ماتش” الفرنسية إلى أن هذا التعاون كان له ثمن: “قدم المغاربة تسجيلات القمة العربية للإسرائيليين، وباليد الأخرى طلبوا منهم رأس بن بركة” في إشارة إلى مؤتمر القمة العربية الثالث الذي عُقد في سبتمبر/ أيلول 1965 بالدار البيضاء.

الأمر لم يكن مجرد تبادل معلومات استخباراتية، بل كان صفقة كاملة: المعلومات الاستراتيجية عن العالم العربي مقابل المساعدة في تصفية معارض سياسي. كانت العلاقة بين الطرفين تهدف أيضاً حسب الكتاب إلى تسهيل هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، لكنها أخذت “بعداً خاصاً”، كما تقول “لوموند”، عندما تعلق الأمر بعملية اغتيال بن بركة. ما كان مفترضا أن يكون دورا محدودا للموساد في تقديم “المساعدة اللوجستية”، تحوّل إلى مشاركة كاملة في الجريمة. فالوثائق تُظهر أن العملاء الإسرائيليين لم يكتفوا بتقديم المشورة فقط، بل قاموا بشراء أدوات الجريمة، وتأمين المخابئ، والتنسيق الأمني، وحتى التخطيط لطريقة دفن الجثة.

من متاجر باريس إلى مخبأ سان كلو
تكشف المقتطفات المنشورة من الكتاب عن تفاصيل تقشعر لها الأبدان حول الاستعدادات لـ”العملية”.

ففي يوم الثلاثاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1965، بعد 4 أيام من اختطاف بن بركة، تجول عميل للموساد يحمل الاسم الحركي “أتار” في متاجر باريس، يتسوق بحذر شديد: مجرفتان، فأس، مصباحان يدويان، مفك براغي، كماشة، وحقيبة قماشية كبيرة. لكن العنصر الأخطر الذي كان في حوزته يتمثل في 15 علبة من الصودا الكاوية (هيدروكسيد الصوديوم)، المادة الكيميائية القادرة على إذابة الجسد البشري.

كان “أتار” يشتري قطعتين أو ثلاث فقط من كل متجر، حتى لا يثير الشبهات. الصودا الكاوية بالذات كانت الأخطر: “يُستخدم عادة لتسليك البالوعات، لكن بسبب قوته الكاوية القادرة على حرق الجلد، لا يمكن لأحد أن يشتري مثل هذه الكميات لتخزينها في منزله”، كما يوضح الكتاب.

في التاسعة مساءً من اليوم نفسه، وضع عميلان إسرائيليان الحقيبة المحملة بـ”أدوات الموت” في شقة من 4 غرف في ضاحية سان كلو، بغرب باريس.

كان هذا “المنزل الآمن” الذي استأجره الموساد منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول لصالح وحدة “كاب 1″، الوحدة الخاصة في الأمن الوطني المغربي. بعد ربع ساعة، وصلت سيارة أجرة، نزل منها مغربيان، استلما الحقيبة، وانطلقا.

ثم جاء الاجتماع التنسيقي الليلي في مقهى قرب الشانزليزيه. استمر اللقاء ساعات. ناقش الدليمي وعملاء الموساد تفاصيل دقيقة لـ”العملية” من بينها، كيفية الوصول إلى مكان احتجاز بن بركة بجنوب باريس، وكيف يجب التعامل مع الحواجز الأمنية، وحتى الطريقة المثلى لحفر القبر.

وقدم “ميفوراش”، العميل الإسرائيلي الذي وُكلت إليه مهمة “التدريب العملي”، دروساً في كيفية الحفر: “يجب دائماً الاحتفاظ بالطبقة النباتية التي أُزيلت أولاً، سليمة قدر الإمكان، لإعادة وضعها كما هي في النهاية. يحفر رجلان في نفس الوقت… مستطيل بطول 60 سم وعرض 1.20 متر وعمق 1.50 متر يكفي”. ثم أضاف، بلغة استخباراتية باردة: “بالطبع، يجب معرفة كيفية إدخال الزبون”.

“لقد أغرقناه في الحمام”
في الساعة الخامسة والنصف من مساء 3 نوفمبر/تشرين الثاني، وفي “لقاء صدفة” بنفس المقهى، روى الدليمي تفاصيل ليلة الجريمة. وصلوا في الساعة الواحدة والنصف صباحاً إلى بيت الاحتجاز. ثم غادر الحراس الفرنسيين الثلاثة مكانهم بحجة أنه سينقل بن بركة إلى المغرب، بل وأوهمهم بأنه قد يحتاج إليهم مجدداً، “لإبعاد فكرة التخلص من بريجيت عن أذهانهم”.

بعد مغادرة الفرنسيين، بدأ استجواب بن بركة. لكن أجوبته لم تعجب الدليمي. لذا أخذوه إلى الحمام “كأنهم سيعذبونه، لكن هذا لم يكن صحيحاً”. هنا يتوقف الدليمي لينظر في عيني محدثه الإسرائيلي، ليتأكد أنه فهم المعنى. ثم يكمل: بدلاً من غمر رأس بن بركة في الماء للتعذيب، “أمسكوا به لمدة ثلاث دقائق تحت الماء”، ويمد ذراعه للأسفل وراحته للأمام، في إيماءة توضيحية. لقد أغرقوه في حوض الاستحمام.

“بعد ذلك، التقطتُ صورة له، ليصدقوا في البلاد أن “العملية “انتهت حقًا”، يضيف الدليمي مازحاً، كأنه يروي حكاية طريفة وليس اعترافاً بجريمة قتل.

الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو النقاش الذي تلا ذلك. عندما وصل رافي إيتان، القائد الميداني للموساد في العملية، بدأ الدليمي يقارن بين “طريقة الحمام” و”طريقة الطب” (استخدام السم). أخبره إيتان أن “السم القاتل وصل صباح ذلك اليوم على متن رحلة لشركة العال”. فأجاب الدليمي أنه يود “اختبار السمّين في مناسبة ما، للمقارنة”. وعده إيتان بإرسالهما إلى المغرب لاحقاً.

الكتاب لا يكتفي بإظهار دور عناصر من الموساد وأخرى من الأمن المغربي، بل يكشف أيضاً عن “الشريك الثالث” في الجريمة: عناصر من “الشرطة الديغولية”، كما تصفها “باري ماتش”.

سلسلة التواطؤ في الجريمة بحسب الكتاب بدأت من عميل سري إلى مستويات عليا بالسلطة.

نهاية الأسرار… أم بداية أسئلة جديدة؟
منذ 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، والملف ظل لغزا معقدا يربط بين أجهزة أمن، وشبكات جريمة، و”تواطؤ” دولي. الجثة لم يتم العثور عليها قط. القضية نسجت حولها أساطير وروايات متضاربة.

ويرى الكاتبان أن الوثائق التي اعتمدا عليها تكفي لإعادة طرح سؤال أعمق: هل يمكن لأي سرّ سياسي أن يبقى مطمورًا إلى الأبد؟

الكتاب لا يدّعي تقديم “الحقيقة المطلقة”، لكنه يضع القارئ أمام حقائق لم تكن في المتناول. كما يعيد طرح القضية في ضوء جديد، حيث تختلط السياسة بالاستخبارات، والمصالح بالدّم، والحقيقة بالأسطورة.

ويبدو أن “نهاية الأسرار” ليست سوى عنوان موقت، لقصة مؤلمة لم يكشف عن فصولها بعد رغم مرور ستين عاما على اختفاء أحد أبرز المعارضين في المغرب باسم المهدي بن بركة.

عن فرانس24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى