وترجل فارس آخر (3) في خضم معركة الاستقلال الوطني التام
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
كم كان عقد الستينيات متميزا بما في الكلمة من معنى، وكذلك أبناؤها البررة الشجعان! فطبيعة جيل “الستينيات المجنونة” – كما يحلو لابنها الفذ وصديقنا المحامي اللبناني الأستاذ أحمد مخدر (رحمه الله) أن يصفها- وكذلك جيل السبعينيات، كانت مختلفة تماما عن طبائع أجيال اليوم! كان بإمكان أولئك تسنم أعلى المراتب والمناصب، وكانت أبواب الدنيا مشرعة أمامهم ليتبوؤوا قمم الوظائف والمناصب، ويصبحوا ذوي ياقات بيضاء وخضراء وصفراء. إن شاؤوا.. ولكن علو هممهم ونبل قيم الوطنية والإنسانية التي يتحلون بها أبيا ذلك! فتشبثوا بحزم وعزم بمصالح الشعب والوطن، واتخذوا النضال ضد الاستعمار والرجعية والعبودية سبيلا لتحقيقها! بينما يتسول أكثر شباب اليوم أتفه المناصب والمكاسب خائنين وخالعين الحق وخانعين لغير الله!
وفي هذا المناخ الثوري الوطني والدولي الرائع تخرج المهندس الزراعي الشاب متفوقا على أقرانه، وأبى إلا أن يعود إلى وطنه حاملا معارف وافرة وآمالا عريضة بالخير والتقدم والنماء، فعين عن جدارة مدير مشروع امبورييه الزراعي في روصو، فشمر عن ساعديه وأخذ يبذل ما في وسعه ووسع فريقه الشاب من أجل النهوض ببلاده من خلال النهوض بالزراعة التي شكل ذلك المشروع باكورتها الرائدة!
يقول صديقه ورفيقه المهندس مالكيف ولد الحسن: “كنا خمسة مهندسين نعمل في المشروع، وكان من الصعب معرفة من منا المدير! لم يكن ذلك عن ضعف شخصية أو إهمال؛ بل كان عن تواضع مديرنا ودماثة أخلاقه ونكرانه لذاته! وما زلت أذكر جيدا بعض تلك اللحظات التي تجلت فيها شخصيته الحقيقية وظهرت عبقريته القيادية! فذات يوم زارنا الوزير الوصي وكنا في ذروة الحماس، فخاطبتُه بطريقة حادة ووجهت إليه الكثير من الانتقادات حول الوضع الذي تعيشه البلاد، ودخول جماعة التكنوقراط التي ينتمي إليها إلى السلطة من باب خلفي، فغضب الوزير وتكهرب الجو وكاد الاجتماع أن يفشل! ثم تكلم المدير فدخل مباشرة في صلب موضوع الزيارة وعالج الوضع ورأب الصدع وأعاد المياه إلى مجاريها دون أن يتراجع عما قلته أو يفند منه حرفا، لكن بلغة مهذبة وبأسلوب مرن ومسؤول ومحترم ومقنع!
وزارنا الرئيس المختار ولد داداه صحبة الرئيس القذافي المولع جدا بالعربية، رحمهما الله. فقدم لهما المدير شرحا وافيا ودقيقا عن المشروع بلغة عربية فصيحة وجزيلة رغم كونه درس وتخرج في فرنسا، وكون اللغة الفرنسية هي السائدة يومئذ في موريتانيا؛ وقد ثمن في عرضه دور الصينيين الإيجابي في نجاح المشروع. فما كان من القذافي إلا أن أمره بمضايقة الصينيين وحملهم على مغادرة البلاد! ورغم فجاجة وغرابة التصرف، فقد ظل المدير هادئا ومتزنا لم ينبس ببنت شفة ولم يظهر على ملامح وجهه استياء أو استغراب! ولما انتهت الزيارة وهم الوفد الرئاسي بالخروج تقاصر المختار خطوات عن ضيفه وأمسك بيد المدير وقال له بصوت خافت القذافي يهدينا ويهديه ما يُصَنَّتْ لَكْلامُه”!
واشتدت وطأة الجفاف في نهاية الستينيات ومستهل السبعينيات، فانهار الاقتصاد الريفي الذي تعتمد عليه غالبية الشعب يومئذ، ونفقت المواشي وانتشرت المجاعة، وهاجر سكان الريف إلى المدن فشكلوا حولها طوق أحياء الصفيح والعشوائيات البائسة، وتفاحشت سوآت الاستعمار الجديد وبدت ظاهرة للعيان، وثار الشباب، فاحتدم الصراع بين الحركة الوطنية الديمقراطية الوليدة ونظام حزب الشعب لحد كسر العظم! خاصة بعد أن جدد النظام شبابه باستقطابه لجماعة “التكنوقراط” وتبنيه إصلاحات خجولة رفضها الكادحون جملة وتفصيلا وطالبوا بإصلاحات جذرية تمثلت في برنامج النقاط الخمس، وفي مقدمتها تأميم شركة ميفرما وإطلاق الحريات الديمقراطية وترسيم اللغة العربية وكتابة اللغات الوطنية.. إلخ.
وفي أتون هذه المعركة المصيرية تبنى النظام أساليب قمع جديدة ضد مناضلي الحركة، منها نفى وسجن الزعماء في مناطق نائية من الوطن، وفي “بيلا” (وما أدراك ما “بيلا”؟!) وطرد المضربين من العمل وإخراج عائلاتهم وعائلات المعتقلين والمطلوبين من مساكن الدولة، وتجنيد الطلاب، وتعذيب المعتقلين من شباب ونساء وعمال! وقد ردت الحركة على ذلك بالصمود وتأجيج الإضرابات والحركات الاحتجاجية والمطلبية وتوزيع المناشير والجرائد التي تحرض على النظام الاستعماري الرجعي وتتشبث بالأهداف والمبادئ والمطالب الوطنية والاجتماعية. ووضعت خطة محكمة قلما انخرمت لحماية قادتها بإشراف ورعاية قائد المهمات الخاصة فيها الزعيم محمدٌ ولد عابدين رحمه الله. وكان شعار الحركة في تلك المرحلة هو:
الجَّـــوْعْ وُلَخْلَ والتَّحْــــفَارْ ** والبَطْ وُلَخْنـــــــيكْ وُلَعْجِينْ
والصَّوْعْ امْنْ الشَّغْلَ والدّارْ ** واتْجَوْسيسْ ولِكْذَيْبْ الشَّيْنْ
وَالْحَـــبْسْ وُتَزْفَاتْ المُخْتارْ ** هَذا ما يَقْهـــــَـرْ حَــدْ امْتِينْ
نَحْــــنَ نَبْغُ نَحْــــيَاوْ أحْرَارْ ** وَللَّ زَادْ انْـــــمُوتُ حُرِّيـنْ!
وفي مثل هذه الظروف القاسية كان من مصلحة الحركة – وبإمكانها- إبقاء مهندسها الزراعي في الظل على رأس مشروع امبورييه؛ إذ كانت مردوديته عليها وعلى الوطن هنالك أكثر وأكبر! لكن رياح النضال جرت في اتجاه آخر؛ خاصة أن عبد الله مهر كريم لا يسعه إلا الصدر، أسوة بأبي فراس وقومه:
“ونحن أناس لا توسط عندنا ** لنا الصدر دون العالمين.. أو القبر
فخاض النضال، وأصبح من أوائل المطلوبين! لينتقل إلى السرية عضوا في هيئة تحرير “صيحة المظلوم” التي يقودها يومئذ “المجند الهارب من الخدمة” الطالب محمد ولد لمرابط، وعضوا في اللجنة المركزية لحزب الكادحين. وقد اضطرت الحركة أثناء اشتداد الصراع إلى نقل الهيئتين إلى خارج انواكشوط، ثم إلى خارج الحدود؛ لتستقرا نحو سنة ونصف في مدينة سان لويس!
كانت تلك الفترة من أحلك فترات النضال التي عرفتها موريتانيا! وقد خضع فيها المهندس وصحبه لـ”إقامة جبرية” اختيارية، لا يرى صاحبها النور إلا لماما، ولا يخرج من دهليز متجره الصغير تحت أي ظرف، ويخضع لنظام تقشف صارم في الأكل والملبس والسكن على غرار تجار المفرق البيضان في السنغال!
وخلال وضعية الحياة السرية الصعبة التي دامت نحو ثلاث سنوات نصفها – أو أنقص منه قليلا- في السنغال، يقول خبير المحاسبة الطالب محمد ولد لمرابط، في ذكرياته عن الفقيد: “كان كاتبا قديرا، ومنضبطا وصبورا! لم أره قط متضايقا من شيء مهما كانت شدته أو منزعجا من ظروفنا الصعبة البائسة، ولا غاضبا من تصرف زميل، ولم يعص لي أمرا قط أو يجد غضاضة في قيادتي له وأنا أصغر منه سنا، وأقل منه مؤهلات علمية، وحتى حين احتدم الصراع بيننا حول سياسة الوحدة الوطنية التي طرحها الحزب في مواجهة خط النضال المسلح الذي دعت إليه أقلية من رفاقنا، فقد ظل هادئا وباسما وودودا، ومقنعا أيضا فيما يدلي به من حجج”!
ويقول فيه عن دراية أيضا الدكتور محمدو ولد امين أستاذ التاريخ بجامعة انواكشوط الذي كان ضمن فريق حرس “صيحة المظلوم” في سان لويس: “كان المرحوم طالبا متميزا، ووطنيا مخلصا، ومناضلا شجاعا، وسياسيا جريئا، ووزيرا مستقيما، ورجل أعمال ناجحا. مارس السياسة وشغل الوظائف السامية، وانهمك في الأعمال بقطاع الصيد، واستطاع – مع كل ذلك- صون كرامته والمحافظة على وطنيته واستقلاليته.. وكان يملك خصلة أخرى لا يعرفها إلا من عايشه عن قرب؛ ألا وهي شغف عميق بالمطالعة والمعرفة يكاد يبلغ درجة الإدمان”.
وفي منتصف سنة 1974 خفت حدة الصراع نسبيا وبدت تباشير التقارب والحوار بين الحكومة والكادحين على أساس برنامج الوحدة الوطنية ذي النقاط الخمس آنفة الذكر، فقفلنا عائدين إلى أرض الوطن زرافات ووحدانا، فكان الفراق صعبا ومؤثرا عبر عنه بعضنا بما يلي:
فِطْريگْ الثوْرَه يَالرِّفاقْ ** نِمْـــــش لَعَادِتْ لَـــــــوّايَـه
والمَوْتْ اعْليها والْفِراقْ ** مَا فيـــهُمْ واحِــــدْ رِوايَــــه
عاگِــبْ وِداعِي لِبْراهيمْ ** والمِصْطافَ وافْطَنتْ اطْميمْ
عَندي وِداعْ الشَّـْيخْ أَليمْ ** امِنْ مَشْيِتْ زادْ امْنْ احْـــذايَ
سيدِي تَمَّيْتْ ألّا سَقـــيمْ ** واكْرَهْتْ الدنْيَا خَــــــــلّايَ
واكْثِرْ تِخْمامِ والتّمْــتيمْ ** فَخْلاگي، غَيْرْ النِّـــــــــهايَ
فيها رَيْتْ الحّلّْ السّلـيمْ ** واجْبَرْتْ اطْبـــــــيبِ وادْوايَ
فِطْريگْ الثوْرَه يَالرِّفاقْ…
… وفي نهاية المطاف آتت سياسة الوحدة الوطنية أكلها. فانعقد المهرجان الوطني للشباب في أغسطس سنة 1974. فكان في ظاهره مهرجانا حرا للشباب الموريتاني كافة، وفي باطنه إطارا حواريا شاملا بين النظام والكادحين تم خلاله بحث كبريات المشكلات، وتمخض عن أمور عديدة من بينها تأميم شركة “ميفرما” وإصدار عفو عام عن السجناء والمطلوبين، وإرجاع الموظفين والعمال المطرودين إلى أعمالهم وتسوية أوضاعهم.. إلخ. وفتح حزب الشعب إطارا جامعا لمختلف الطيف السياسي الوطني على أساس ميثاق وطني تقدمي معاد للاستعمار والرجعية واستغلال الإنسان للإنسان، ضمن إصلاحات أخرى وسياسات وطنية واجتماعية كتقسيم القطع الأرضية مجانا على سكان أحياء الصفيح ودعم السلع الاستهلاكية والأدوية ومجانية العلاج.. إلخ.
ألقت “بيلا” وغيرها من المعتقلات ما فيها، وخرج المطلوبون منتصرين من تحت الأرض عشية صدور قانون العفو العام، وفي مقدمتهم القائد المناضل عبد الله بن إسماعيل!
وعمت الفرحة سائر أنحاء الوطن! فقد انعتقت موريتانيا من ربقة الاستعمار الجديد، ووضعت يدها على ثرواتها الطبيعية، وتصالحت مع نفسها وتوحدت إرادة أبنائها، فاستطاعت أن تخطو خطوات واسعة في طريق الاستقلال والبناء! لولا كارثتا حرب الصحراء وانقلاب العاشر يوليو!
ولن يكون الحديث كاملا ومفيدا عن الزعيم والثائر والسياسي والإنسان عبد الله ولد إسماعيل رحمه الله، وعن ثورة ونضال الكادحين، إلا إذا أشرنا – ولو لماما- إلى دور المرأة الموريتانية المناضلة التي هزمت بصبرها وصمودها وإقدامها وتضحيتها تعنت يمين نظام حزب الشعب وقمع وطغيان بوليسه وميليسه وحرسه ودركه والمؤسسات التقليدية القبلية والجهوية.. وغيرها، التي كانت تشد عضده في حماية المصالح الاستعمارية والاقطاعية والعبودية. وكن قائدات شجاعات ومعلمات ومنظمات ومربيات وظهيرا لا يقهر للكادحين!
وهن فصيلتان؛ الأمهات، ومنهن: “الأم” ميمونه بنت عبيد.. السالمه فال بنت محمد المامي، ميمونة بنت الكتاب، منت اسرماغه، ابيبه بنت احمدناه، رقية بنت المصطفى، ماريه بنت طهمان (الناهْ) انضاته بنت سيدي ميله، الخيريه بنت بادي، أغلانا بنت خطري، زليخه بنت ببانا.. إلخ. وفصيلة المناضلات، ومنهن: مريم بنت لحويج، السالكه بنت اسنيد (وأختها النجاح) فاطمة بنت عابدين، بنات لبات (عائشة وأخت البنين وخديجة) ﭼلّيت بنت زين، مريم السالمه بنت باب أحمد، نانسي اعبيد الرحمن، خديجة بنت أمجار، امَّيْمَه بنت البخاري، عائشة وفاطمه ابنتا أحمدُ بنبه، انِّينْ بنت محمد ولد أحمد، الناها بنت حي، بنات كريم (مريم وعائشة وفاطمة) مريم بنت كبود، لاله عيشه، ماري تراورى، لندا به، سي كومبا، لالّه عيشه سي، بنات خُبّاه، (مريم وبنت حيبلتي وفاطمه) الناجيه، مريم بنت عبد المولى، سلمّ بنت عبد المولى، حاجه بنت محمد ولد أحمد، خديجة بنت حمّدي، امزيريگه بنت عثمان، بنات مِنّي (عائشه وخديجة وزينب) بنات أغيلاس، فطري (عائشة با الملقبة لفطير) الفضيلة بنت امبارك، البارّه، السالمه وخديجة بنتا البشير، آمنة بنت اعلي، ديده بنت باريك، اعزيزه بنت المسْلم… وغيرهن كثير. فهن اللواتي بنين مجد الحركة الوطنية الديمقراطية وحزب الكادحين، وقهرن غطرسة وعدوانية المتعنتين من رجعيين وعملاء، وساهمن في رفع قواعد الدولة التي يعيث فيها اليوم وينخرها ويسرقها المفسدون! فإليهن جميعا تحيتي وعرفاني وإكباري، ورحم الله من قضى نحبه منهن، وأطال في عمر من ما زلن ينتظرن وما بدلن تبديلا!
وللحديث عن الفقيد وعنهن وعن الكادحين بقايا إن شاء الله.