نجاح ترامب : محاولة لفهم الأسباب والمآلات

الدكتور محمدولدالراظي

نجاح اترامب بالشكل الذي حصل به ليس أمرا عاديا بل حدث كبير يستدعي البحث في أبعاده ومآلاته ؛ فقد فاز المرشح الجمهوري بالأغلبية في التصويت الشعبي لأول مرة منذ 88 – آخر مرة خسر مرشح جمهوري هذا التصويت كان ترامب نفسه أمام هيلاري كلينتون يوم فاز بمأموريته الأولى عام 2016 – وفاز بأغلبية الناخبين الكبار و سيطر الحزب الجمهوري على الكونغرس بغرفتيه وفاز بأغلبية حكام الولايات فكيف لشخص متهور، متقلب، بهلواني في حركاته وسكناته ، سطحي في أقواله لا يقيده عرف دبلوماسي ولا يلتزم بضوابط الكلم ولا بأدب التخاطب أن يكون عنوانا لانتصار بهذا المستوى وبهذه الشمولية……!!! أم أن اترامب الإنسان ليس هو الذي فاز بالإنتخابات وإنما الصدفة ساقته ليكون عنوانا لتحول أمريكي كبير كان ينتظر الثلاثاء الأول من شهر نفمبر ليعلن عن نفسه ؟

لا يمكن أن يكون نجاح بهذا النوع وبهذا الحجم مرده فقط أن حملة كانت أفضل من أخرى في استحصال الوسائل وتدبير الإمكانات ولا أن ارتباكا حصل للطرف المقابل دفعه لتغيير مرشحه قبيل الإنتخابات بفترة وجيزة بل لا بد أن له أسبابا مجتمعية وأن هناك تحولات كبرى داخل المجتمع الأمريكي جعلته ينقلب ليس على حزب بعينه ولا مرشح بذاته فحسب وإنما على توجه عام وفلسفة حكم…

هذا النجاح المذهل نجاح لفلسفة يمينية قديمة وراسخة في المجتمع الأمريكي ، تقوى تارة وتتراجع تارة وتعيش كمونا تارة أخرى لكنها تتجدد دوما وتجددها هذه المرة مدفوع بثورة شبابية عارمة تطالب بالعودة لمركزية الإنسان “الأبيض الأنقلوساكسوني البروتستانتي wasp” الذي هو بالنسبة لليمين يعني أمريكا وهو عندهم أولى من غيره بموارد الولايات المتحدة وأولى من غيره بالرعاية الإجتماعية وأولى من غيره بالإهتمام الحكومي في كل القطاعات وهو وحده من أسس أمريكا العظيمة وهو وحده القادر على استعادة عظمتها ونموذجها الخاص؛ لكن هذا الإنسان يعني اليوم أمريكا الأعماق سكان الوسط حيث يختلط أبناء الوافدين الأنقلوساكسون بالوافدين من الإسبان والمستقدمين السود فالمناطق الساحلية عادة ما تكون أكثر انفتاحا وأكثر احتكاكا بالغير …فما الذي جمع هؤلاء الأقوام رغم مابينهم من أسباب الفرقة التاريخية ليلتفوا حول اترامب ؟ ولماذا استيقظ هذا المارد بقوة اليوم ليعصف ب”اليسار الأمريكي” وممثليه بهذا الشكل المهين ؟

الهوية الأمريكية غير موجودة أصلا فالكل مهاجرون بعضهم وصل قبل بعض وبعضهم كان أقوى من بعض وكان البيض أقوى من الجميع والأبيض تعني حصرا “الأنقلوساكون البروتستانتي” فلم يكن لغير البيض حظ من السلطة ولم يكن للكاثوليك حظ منها لكن تحولات كبيرة ظلت تحبو ولا تتوقف لتصحيح هذا العرف فوصل الكاثوليك للسلطة مرات ووصل لها السود مرة وتداخل المجتمع تداخلا خجولا لكنه ملموس وأصبحت الدعوة اليمينية تلقى قبولا من غير البيض ومن غير البروتستانت ومن غير الأنقلوساكسون لأن الجميع وجد في دعوتهم لتوطين الثروات الأمريكية الطريق الأقصر والأضمن لإستفادة المواطن من نمو اقتصاد بلاده ووجد الجميع في دعوتهم لغلق الحدود أمام المهاجرين طريقا رديفا لا غنى عنه من أجل أن يأخذ النفع من توطين الثروة مداه، فكلما قل المهاجرون كلما زاد نصيب المواطن الأمريكي من المخصصات الإجتماعية وكلما قل المهاجرون كلما تعزز التلاحم المجتمعي الداخلي وقلت الثقافات الوافدة المغايرة فتستمر أمريكا للأمريكيين….. المأخذ الأهم لهؤلاء على اليسار الأمريكي (الحزب الديمقراطي) انخراطه المفرط في الشؤون الدولية وتوجيه ثروات أمريكا لقضايا لا تهم المواطن الأمريكي ولا تعود عليه بنفع وفتحه للحدود أمام الملايين من المهاجرين….

جمع بين الذين شكلوا ركيزة جمهور هذا التحول الأمريكي الكبير أن اترامب خلال مأموريته الأولى استطاع أن يُوَطِّن النمو الإقتصادي الكبير الذي حصل في عهده فاستفاد الأمريكي العادي من هذا النمو وأحس به في مستوى التشغيل ومستوى المعيشة والخدمات الصحية فانتشر بينهم شعور قوي بالحاجة لأن تنكفئ أمريكا على نفسها وتتخلص من أعباء الآخرين جماعات ودولا فتستعيد عظمتها وقوتها فلا قوة لبلد حين يكون مواطنوه بحاجة لرعاية….

يدرك اليمين أن أمريكا تواجه خطرا وجوديا وأن التباين الكبير داخلها هو بمثابة قنبلة موقوتة قد تعصف بالنموذج الأمريكي نفسه فبعض الولايات الوازنة قد بدأت رحلة استفتاءات من أجل الإستقلال وغالبية الولايات المكونة للإتحاد منقسمة ما بين “مَلَكيات جمهورية” حمراء و”مَلَكيات ديمقراطية” زرقاء لا يجمع بينها غير قبولها بالعلم المنجم و لا أحدا يأخذه الفضول للسؤال عن نتيجة الإنتخابات فيها بل الحسم تحدده تسع أو عشر ولايات هي وحدها ما يمكن وصفها أنها ديمقراطية لأن نتيجة الإنتخابات فيها غير معروفة سلفا تارة يفوز بها الديمقراطيون وتارة يفوز بها الجمهوريون …

التحولات المجتمعية نادرا ما تحدث فجأة بل تأتي على وقع تراكمات من الفشل والنجاح واختبار طرق والإدبار عن أخرى وأمريكا في العقود الأخيرة كانت الأكثر عدوانية وتوسعية وغطرسة ، ساعدها انفرادها بالقوة بعد انهيار جدار برلين فظنت أنها مالكة العالم كله وعاثت فسادا في كل قلاع الممانعة وأمعنت تدميرا واستهتارا بكل شرائع السماء وداست كل قوانين الأرض……..في الوقت نفسه كانت شعوب أخرى ودول بعضها يتطور بهدوء وبانتظام و بعضها يستعيد عافيته بهدوء أيضا وبانتظام وكانت كل خطوة تخطوها الصين روسيا تتآكل معها أسباب الهيمنة الأمريكية دون أن تخبر عن ذلك ودون أن تشعر أمريكا بخطر مَثلها كمثل امرئ أصابه التهاب صامت لا يشعر به مادام ليس به ألم وما دامت مناعته الطبيعية قادرة عليه وحين تعجز كريات دمه البيضاء عن دورها تبدأ أمارات الضعف على جسمه ويبدأ يحس بما لم يحس به من قبل فينتبه لما ألم به من وجع فيبدأ رحلة العلاج……هذا هو حال أمريكا في السنوات الماضية ، لم ينعكس نمو الإقتصاد الكلي على حياة المواطن الأمريكي بل تراجعت مؤشرات الصحة العامة في كبريات الولايات وتراجعت الخدمات الإجتماعية وتراجعت الديمغرافيا وانتشرت المخدرات وتحللت القيم فانتشر زواج المثليين وعمت المجتمع فردانية لا قيود لها ولا ضوابط فأصبح المجتمع كله على حافة الإنهيار فكان الشعور بالخطر الداهم عامل تلاقي بين الكثير من السود والبيض والإسبان في وسط أمريكا لصالح اترامب….

لم تنفع الديمقرطيين ولاءات أوروبا الشرقية لأمريكا ولا تبعية أوروبا الغربية لها ولم تسعفهم رهبة الجميع منها ولم تنفعهم أنهار الدماء التي أسالت أمريكا عبر العالم، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير ما تشهده “دَوْلَرة العالم” من تراجع مخيف وقيام دول كبيرة وازنة في عالم المال والإقتصاد والعلوم ولها قدرات عسكرية مخيفة، بتشكيل منظمة “بريكس” فخسر دعاة فلسفة التوسع الأمريكي كل ماكانوا يدفعون به لتبرير انخراط بلادهم في شؤون العالم …..

في هذه اللحظة توقف المواطن الأمريكي يسائل نفسه عن جدوى انخراط بلاده في قضايا العالم الآخر فكانت ثورة “أمريكا أولا” شعار اترامب الذي منحه الفوز في السباق الرئاسي فحدثت رجة كبيرة في أنحاء العالم وتنوعت ردود الأفعال خارج أمريكا بين من أفرحه التغيير وبين من أساءه وثالث ينتظر ما ستخبر عنه الأيام بعد العشرين من شهر يناير القادم …….فمن هم الخاسرون من هذا الحدث التاريخي ومن هم الذين قد يكسبون ؟

كل من تضرر من انخراط أمريكا في الشؤون الدولية قد يربح وكل من يفيده إنكفاؤها على نفسها قد يربح وقد يخسر الذين رهنوا مستقبلهم بفلسفة التوسع الأمريكي وقد تخسر الأنظمة التي راهنت على المظلة الأمريكية دون دفع…..فمن هؤلاء ومن هم أولئك ؟

ترامب تاجر وبوصلة التاجر ومِقْوده في ميزان الربح والخسارة و كل مصروف لا بد من عائد يقابله وعلى من يريد الحماية من أمريكا أن يدفع لأمريكا أو يبحث له عن مكان يُنجيه أو حليف يركن إليه غيرها….

يتوقع أن يكون الإتحاد الأوروبي كمنظمة أولى ضحايا العهد الجديد في أمريكا وقد لا يعمر طويلا خاصة أن أمريكا شريكه الإقتصادي الأول وسيكون عليه أن يختار طريقه أمام إغراءات “بريكس” الجاذبة وإكراهات الفلسفة “الترانبية” الطاردة فالرئيس الأمريكي الجديد سيحمي المنتج الأمريكي من كل منافسة ولن يبخل بوسيلة لضمان ذلك ولن تهمه قوانين التجارة الدولية ولن يهمه صديق ولا حليف وقد يلاقي تصرفه هذا هوى كبيرا في نفوس اليمين الأوروبي الذين يطالبون بفك قيود الإتحاد الأوروبي عن بلدانهم بل من المتوقع أن تجد اليمينية الزاحفة في أوروبا قوة دفع قوية في نجاح اليمين الأمريكي ولا يستبعد أن تقع فرنسا في قبضة اليمين في الإستحقاقات الرئاسية القادمة وسيعني هذا خروجها من الإتحاد الأوروبي وعودتها للفرنك وخروجها من حلف شمال الأطلسي…..

أما الخاسر الثاني فسيكون حلف شمال الأطلسي ، درع الإتحاد الأوروبي العسكرية وذراع أمريكا القوية ، فلن تدفع أمريكا له مستقبلا وسيكون على الدول الأوروبية أن تتقاسم الأعباء بحكم أنها المستفيد الوحيد من مظلته وسيكون تقاسم التكاليف بينها بحسب درجة حاجة كل دولة لمظلته و أولى الدول التي تحتاج الحماية هي دول أوروبا الشرقية المواجِهة لروسيا وهذه الدول لا تملك موارد تدفع منها بل هي أصلا تعتاش على حيوية الإقتصادات الكبرى داخل الإتحاد الأوروبي ( ألمانيا وفرنسا وغيرها) وتعتمد في صوتها المعطِّل داخل مؤسسات الإتحاد على المظلة الأمريكية….

سيفقد الحلف جاذبيته لدول جديدة أن تلحق به لسببين أولهما أن لا خطر تواجهه هذه الدول من غيرها خاصة يوم تنتهي الأزمة الأكرانية ولا أحدا سيصور لها خطرا غير موحود يداهمها ؛ فأمريكا التي كانت تقوم بهذه المهمة لم تعد معنية كثيرا بالحلف ؛ وثاني الأسباب أن هذه الدول لن تكون مستعدة للدفع من أجل الحماية من خطر غير موجود وأمريكا لم تعد تعطي مظلتها دون مقابل مالي…

قد ينتج عن هذا الواقع الجديد أن تستعيد فرنسا استقلاليتها عن الحلف فلا حاجة لها به والشعب الفرنسي لا يكن ودا كبيرا للحلف أصلا ولا لأمريكا وأي تصدع في الحلف سيعني أيضا تصدعا آخر في الإتحاد الأوروبي….

يبقى أن اترامب شخص عصي على الفهم ولا يمكن التنبؤ بما سيقوم به لا في الشأن الأوروبي ولا في غيره ، فقد أثبتت تجربته مع كوريا الشمالية أنه قادر على الشيئ ونقيضه وسيد المفاجآت بلا منازع وأن لا حدود لما يمكن أن يقوم به ولا يمكن التوقع بوجهته والثابت الوحيد عنه أنه ليس عدوانيا كما هو حال أقرانه من الأمريكيين وأنه تاجر لا يضيع فرصة لربح ولا يقع حيث تكون الخسارة ومثل هذا الإنسان قد يعطي إشارة اليمين وهو عازم أن يتجه يسارا ولا ينبغي لأحد أن يغتر بإماءة منه أو تصريح…….

ثلاث بؤر عالمية تفرض نفسها على القادم للبيت الأبيض؛ الحرب الأطلسية الروسية في أوكرانيا ونزاع الشرق الأوسط وتايوان.

الحرب في أوكرانيا محسومة بالقوة المسلحة أو بالمفاوضات فبعد ثلاث سنوات من المواجهة أدرك الغرب استحالة كسب المعركة عسكريا وقد ظهر الوهن في صفوف الحلف وبين دول الإتحاد وقد يكون فوز اترامب هبة للغرب يعلق عليها فشله في الصراع وسيهرولون جميعا نحو مسار تفاوضي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أوكرانيا.

في الشرق الأوسط تدور حرب إبادة في غزة وحرب تدمير في لبنان تقودها الصهيونية وأمريكا بمباركة الدول العربية في المنطقة وقد يكون بتمويل منها ضد حماس وحزب الله عنوانها التخلص من خطر الإسلام السياسي السني على الحكومات القائمة وخطر النفوذ الإيراني من خلال قص أذرع الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة…..

فالحديث عن ما قد يكون من آثار لفوز اترامب على شؤون المنطقة يقتصر حصرا على موقفه من الصهائنة وإيران فالعرب ليس لهم اليوم وجود….

قد يتفاجأ الكيان الصهيوني من خطوات الرجل رغم ظاهر الود بينهما فقد فاز دون الصوت اليهودي الذي صوت بكثرة للحزب الديمقراطي وقد فاز بفعل حراك شبابي جامح وصحوة طالبية هزت كل الجامعات الأمريكية منددة باسرائيل وبطشها ثم إن الصوت العربي والإسلامي كان له دور كبير في فوزه وليس بحاجة لناخبين جدد فالمأمورية التي فاز بها اليوم هي الأخيرة…..

سيحاول تفعيل بيته الإبراهيمي لكن أحداثا إقليمية ودولية حصلت في السنوات الماضية قد تستعصي معها إمكانية إعادة الروح في مشروع “دين إبراهيم” منها طوفان الأقصى ومجازر غزة ومجازر لبنان وانضمام الراعي الإماراتي لمنظمة “بريكس” ومشروع الضبعة والتعاون الروسي المصري في مختلف القطاعات وتعافي سوريا والإرتباك الكبير في تركيا………

ستكون علاقة اترامب بإيران علاقة تاجر بدولة تملك ما تساوم عليه وتحسب معاملاتها بدقة ولا تقبل الخسارة إلا مكرهة وهي اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه قبل أربع سنوات وقد تكون امتلكت السلاح النووي بالفعل أو هي على وشك امتلاكه وقد أصبحت في حلف ستراتيجي وعسكري مع دول لا يمكن استفزاز حلفائها دون تبعات خطيرة…..

ستخسر الأحزاب الإنفصالية في تايوان ولن تعود كما كانت جزءا من اهتمامات البيت الأبيض فالتبادل التجاري مع الصين خير لأمريكا من تايوان كلها والسلم مع الصين مصلحة أمريكية قبل أن تكون مصلحة صينية فأية حرب في المنطقة ستعني في يومها الأول كارثة تحل بالمجمع الصناعي والعسكري الأمريكي نفسه الذي يعتمد اعتمادا شبه كلي على أشباه الموصلات في تايوان….

لا يستبعد أن يسعى اترامب لصيغة يقبل بها انفصاليو تايوان وتقبل بها الصين وتقبل بها أمريكا يتم بموجبها التوافق على جدول زمني تعود بموجبه تايوان للسيادة الصينية دون قتال مع مراعاة حد معين من الإستقلال الداخلي للجزيرة كما حصل مع هونك كونغ ومكاو……

ومهما كان برنامج اترامب فقد أخذ قطار العالم وجهة أخرى نحو الشرق هذه المرة تقوده الصين وتحميه روسيا وستبقى أمريكا قوة عظيمة لكنها لم تعد الوحيدة وبين أن تنفرد بالقوة وأن تكون قويا بين الأقوياء بون شاسع سيفتح أعين أمريكا على حقيقة أن العالم يتغير….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى