وترجل فارس آخر! (2)

بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

أطفال حجارة المجرية في فرنسا.. وبزوغ عالم جديد!

وفي فرنسا كان التحول الكبير! إذ سرعانما غرق الفتيان البدويان الوافدان في لجج عالم لم يكن لهما في الحسبان! إنه عالم “الستينيات المجنونة” كما يسميه صديقنا ورفيقنا الشامي المحامي أحمد مخدر رحمه الله! فانهمكا في معركة امتلاك ناصية العلم؛ ثم ما لبثا أن عانقا السياسة انسجاما مع روح العصر، وتلبية لنداء وطنهما العاني المتخلف، الذي أخذ يتشكل للتو ويحبو في ظروف غير مواتية!
وإثر أحداث 9 فبراير 1966 العرقية الأليمة والغريبة على مجتمعنا؛ والتي لعبت فيها أيد خفية فرنسية وسنغالية دورا مهما، بادرا بتنظيم كوكبة من زملائهما وأقرانهما شكلت أول خلية طلابية تعبر حدود العرق والقومية، وتتبنى هموم الوطن والشعب، وتسعى إلى خلق أوسع جبهة طلابية ضد الاستعمار الجديد والرجعية، كانا محركها الذي لا يني ولا يكل! وتتكون تلك الكوكبة – بالإضافة إليهما- من الدكتور المصطفى سيدات مد الله في عمره (طبيب الشعب) ويبه ولد الشيخ البناني، وعبد القادر ولد أحمد، وكن آمادو رحمهم الله، وبوكم محمد أطال الله عمره.. إنها خلية جريدة “التحرير/ Libération” كما يسمونها غالبا، و”جماعة تولوز” فيما بعد!
ويعود الفضل الكبير لخلية “التحرير” في التقارب الذي جرى بعد أحداث 1966 المؤلمة بين مختلف الطيف الطلابي في فرنسا. وقد تجسد ذلك في ربط العلاقة بينها وبين جماعة “المشعل” في الخارج: لادجي تراوري أطال الله عمره، ودافا بكاري شفاه الله وعافاه، وكن بونا رحمه الله؛ وفي التقارب واللقاء بين الجماعتين لاحقا وحركة الكادحين في الداخل!
إلا أن حركة القوميين العرب في الداخل (نواة الكادحين) كانت قد بدأت -حتى قبل مؤتمر “تاكوماجي” بسنتين- وضع جسور الوحدة الوطنية مع نخبة المكونة الوطنية الزنجية! وكانت بداية ذلك المسار هي إضراب القوميين العرب عن الطعام في معتقل “بو امديد” تضامنا مع الـ 19 الذين أضربوا عن الطعام احتجاجا على سجنهم في واحة صحراوية نائية؛ وهو ما اعتبروه تمهيدا للقضاء عليهم جسديا، وطالبوا بنقلهم إلى مدينة ما. فتمت تلبية مطلبهم ونقلوا إلى مدينة العيون! ثم تلت ذلك حوارات نظمها الطرفان في مدرسة الشرطة بلكصر بعد تجميعهم فيها كمعتقل بانواكشوط. وكانت الخطوة الثالثة في المجال النقابي على يد النقابي الوطني الكبير جابيرا جاغيلي رحمه الله، الذي دعا القوميين العرب إلى التحالف ضد احتكار حزب الشعب السيطرة على اتحاد العمال الموريتانيين.. وكان له ما طلب. وإن أنس لا أنس قول ذلك الزعيم عندما لم يجد المجتمعون في غرفة العمل بحي “أ” لغة للتفاهم: “إن لم نجد لغة مشتركة نتواصل بها ونتفاهم، فهناك لغة تجمعنا هي لغة الثورة”!
وقد عرف هذا الاتجاه دفعا وزخما كبيرين مع انتفاضة عمال الزويرات في 29 مايو 1968، ومع افتتاح السنة الدراسية 1968 – 1969 على أيدي جماعات وطنية ثائرة من المكونتين الوطنيتين، من بينها – على سبيل المثال لا الحصر- خليتا روصو وانواكشوط اللتان عبأتا وقادتا التلاميذ والأهالي من جميع المكونات في احتجاجات عارمة على المجزرة؛ وأساتذة الثانويات الزنوج المبعدون إلى الداخل، أمثال الأستاذين كوريرا إسحاقا وسي يورو ألفا اللذين حولا تعسفا إلى تجگجة فاستقبلهما مناضلو تلك المدينة الثائرة الرائدة – وعلى رأسهم شيخهم الجليل التلميدي ولد سيدينا- بالأحضان. وكذلك فعلت جل مدن الداخل الأخرى. مما أتاح لهما ولأمثالهما الاندماج في المجتمع البيضاني الذي فتح لهم صدره كالعادة، فاستوعبوه، وقدموا لنشئه خير ما لديهم من معارف عصرية!
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ الجليد يذوب كليا بين المجموعتين وعادت المياه بينهما إلى مجاريها الطبيعية!

ثنائي المجرية في رحاب الشام: أو رحلة البحث عن الذات
وكممثل لخلية “التحرير” شارك ثنائي المجرية في مؤتمر الطلاب الموريتانيين الأول المنعقد بدمشق بتاريخ 22/7/1968 الذي دعا إليه وحضَّره الطالب الوطني البعثي محمد محمود ولد اماه (الدكتور اماه) رحمه الله. وهناك التقيت بهما لأول مرة فصرنا رفاقا وأصدقاء إلى الأبد!
يقول المصطفى ولد اعبيد الرحمن عن رحلة دمشق: في وسطنا الاجتماعي؛ وخاصة العائلات المتوسطة الحال، يعتمد الشاب على نفسه باكرا، ويسلك إحدى طريقين: إما أن يتعلم ويعيش على علمه، وإما أن يمتهن التجارة ويعيش عليها! وبما أننا سلكنا طريق التعلم بفضل الله ومبادرة ابن عمنا محمد الأمين ولد الأغلال رحمه الله، فقد اعتمدنا على أنفسنا باكرا، وعشنا على منحنا الزهيدة وما نقوم به من عمل في العطل. وكان عبد الله – رحمه الله- عمادنا في هذا المجال، ومخططنا ومقتصدنا. وإليه يعود الفضل في توجهنا إلى الشام. لقد كان بإمكانه – كمهندس زراعي متفوق- أن يحصل على تدريب في إحدى الدول الغربية المتقدمة وبمقابل أكثر! ولكنه أصر على أن يبحث عن تدريب في سوريا، وقد أيدته في ذلك؛ فقد كنا مشمئزين من الحالة التي أصبحنا فيها بعد اندماجنا سنوات في الحركة الطلابية الغربية وفي المجتمع الغربي عموما؛ وخاصة أنا، من جهل اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية.. حتى أني لم أعد أحسن الحديث بالحسانية! فتوجهنا إلى المنابع نبحث عن ذاتينا، حيث زاول هو تدريبه هناك، وحضرنا مؤتمر الطلاب الموريتانيين الأول، وعملنا مترجمين في مؤتمرات ولقاءات الطلاب والقوى الثورية؛ وخاصة الفيتناميين الذين كنا على صلة وثيقة بهم، مع القيادات السورية! لقد كنا قوميين غير متعصبين، ولعل ذلك كان سببا من أسباب التقائنا مع الكادحين!
كان القادمان من بلاد الغال إلى مرابع الغساسنة والأمويين، رحاب المتنبي وأبي تمام وذي الرمة، والمتضلعان من معين فولتير وهوغو وموليير وجهين للوطنية الصادقة والتضحية ونكران الذات في سبيل مجد وحرية الوطن: شاب أسمر اللون، رَبْعَةٌ، ناعم الشعر، أنيق، ذو قسمات هندية تخاله عندما تراه لأول وهلة مهراجا أو ممثلا صاعدا يحصد الجوائز تباعا، جميل الوجه، باسم الثغر، قليل الكلام، صادق الحديث، قوي الحجة يأخذ الدليل من الواقع والعلم؛ وآخر فارع القامة، قمحي اللون فاتحه، ناعم الشعر، مرح وبشوش ومنفتح وحاد، يقذف آراءه الوطنية الثورية الناصعة ويدافع عنها دون مجاملة ولا هوادة، لحد التحدي والمشاغبة إن لزم الأمر!
كنا خمسة فقط (عبد الله والمصطفى من فرنسا، وسيدي محمد سميدع وأنا من داكار والداخل، ومحجوب ولد بَيَّه من مصر) نكاد نتفق على رأي واحد، ويجمعنا هدف واحد هو إقناع المؤتمرين بإنشاء اتحاد وطني ديمقراطي وحدوي صالح للبقاء واستيعاب الطيف الطلابي الوطني بجميع مكوناته، ليكون رافدا للنضال الوطني المستعر في الداخل، ويعلن القطيعة مع الفكر القومي المتعصب الذي كان قويا آنذاك، ويجد له أرضية ملائمة في مقر المؤتمر، وبين أزيد من 30 طالبا ما زال معظمهم في الثانويات؛ وكذلك مع التعصب العرقي الضيق السائد لدى غالبية الطلاب الزنوج!
ورغم صعوبة المهمة فقد نجحت على أكمل وجه، بفضل ما يتمتع به هؤلاء الرواد؛ وخاصة ممثلي “التحرير”، وما تحلت به القيادة السورية من نبل وكرم ضيافة وعدم تدخل في شؤون المؤتمر، وإخلاص ووطنية ورهافة حس ونباهة المؤتمرين!
“… وبدأ النضال الطلابي من دمشق يشق طريقه الواعد ليفضي في النهاية إلى وحدة طلابية موريتانية يشترك فيها جميع الطلاب والمتدربين الموريتانيين، ويعقدون مؤتمرهم التالي الموحِّد سرا في انواكشوط فيرفدون وحدة ونضال أمتهم الذي تكلل بالنصر في سنتي ثلاث وسبعين وأربع وسبعين” (كتاب “سفارة الأرز في إفريقيا الغربية” ص 80).
وانتهت دراسة الشابين المتميزين فعادا إلى الوطن، وبدآ العمل والنضال كل من موقعه، وحسب خبراته وإمكانياته. ولم يلبث الصراع أن احتدم بين الحركة الوطنية الديمقراطية عموما والنظام الموريتاني الذي دشن في مستهل السبعينيات موجة قمع وتنكيل واسعة ضد الوطنيين الثائرين!
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى