… وقاض في الجنة
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
فساد القضاء في موريتانيا لم يبدأ من اليوم، ولا حتى من الأمس القريب؛ بل كان ثمرة لانقلاب 10 يوليو 1978 واستيلاء الجيش على السلطة وسيادة التعليمات على القانون، ووأد الحق خدمة للمصالح الخاصة! فحينئذ أصبح القضاء الجالس تحت الأوامر أسيرا للقضاء الواقف الذي يأتمر بأمر وزارة العدل {إلا من رحم ربك} ممن صمدوا وصبروا مهما كان الثمن، وهم قليل. ثم تطورت الأمور إلى الأسوأ فانخرطت أفواج من القضاة والمحامين في درك المخابرات، واغتصبت هيئة المحامين التي ظلت زمنا طويلا قلعة حق عصية. فتم بذلك الجمع بين هيمنة الأختين العدل والداخلية على مرفق القضاء. وشهد بذلك شاهد من أهلها نهارا جهارا أمام قضاة محكمة الفساد المنعقدة في جلسة علنية حضرها جمهور من القضاة والمحامين والصحافة، ووُثقت تلك الشهادة من طرف الإعلام.
وحسب نص المادة 89 من الدستور فإن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال القضاء”. ورئيس السلطة القضائية هو رئيس المحكمة العليا. و”المحكمة العليا هي أعلى هيئة قضائية في البلد” (المادة 11 من الأمر القانوني رقم 012/2007 التنظيم القضائي).
ويعين رئيس السلطة القضائية (المحكمة العليا) في موريتانيا “من بين القضاة الأعلى درجة أو القانونيين ذوي الكفاءة المشهود لهم بالاستقامة والنزاهة والخبرة” (المادة 14 من الأمر القانوني آنف الذكر نفسه) وذلك من أجل ضمان استقلال السلطة القضائية، وتحقيق حسن سير العدالة، و”السير المطرد والمنتظم للسلطات العمومية” المذكور في المادة 24 من الدستور. لذلك فقد ترأسها قضاة وعلماء أجلاء وقانونيون فضلاء وأعلام نبلاء مثل ابه ولد انه ومحمد الأمين ولد حامني وأحمد بن أبا وأحمد ولد محمد صالح ومحمد سالم ولد عدود وأحمدو ولد عبد القادر ومحمدٌ ولد امبيريك.. وغيرهم.
وفي خضم تيه ما بعد العاشر من يوليو وما عرفه مرفق القضاء من ترد أثناء الحكم العسكري – وخاصة في فترة ديمقراطية العسكر- فإني ما زلت أذكر فترتين متقاربتين من حياة السلطة القضائية كان رئيس السلطة القضائية في موريتانيا في احداهما مهيمنا على جميع الأوامر والقرارات والأحكام التي تصدر في جميع محاكم الجمهورية من بئر أم اڭرين إلى باسكنو، يساعده في ذلك صديقه وحليفه المدعي العام. أما في الأخرى فقد كان الأمر أشد.. حيث كان رئيس السلطة القضائية يرسل سائقه إلى ركن مسجد ابن عباس للقاء زبون وإيداع ما يستلمه منه في حساب مصرفي! وكان أحد حوارييه يغير ويبدل المنطوقات المكتوبة على ظهور الملفات بعد المداولة مستعينا بـ”كوركتير”! كنا إذن نلامس الحضيض!
وفي هذه الأثناء فوجئنا بتعيين إداري من خارج السرب ذي ثقافة فرنسية ولا علاقة له بالقانون ولا بالفقه، رئيسا للمحكمة العليا!
لم يكن الرجل مجهولا؛ بل كان إداريا معروفا ووزيرا سابقا للداخلية. ولعل ذلك كان سبب توجسنا خيفة مما سيقدم عليه من شطط وبغي في تلك الفترة المظلمة!
لكن كم كانت مفاجأتنا كبيرة عندما دعا الرئيس الجديد الغرف المجمعة للانعقاد، وقال للسادة القضاة: أنا لست قانونيا، ولا فقيها. ولكني أريد أن أقيم العدل! وطريقتي لذلك هي أن أجمعكم وأقدم لكم الملف المنشور وأستمع إلى آرائكم القانونية والفقهية فيه، وأحكم بما توصلت إليه أغلبيتكم شريطة أن يستند إلى القانون ويحترم مبادئ العدل والإنصاف. وليس لي أرب في ملف بعينه من بين جميع الملفات التي ستعرض أمامكم! وقد أنجز الرجل ما وعد! وظل ثابتا على ذلك النهج حتى غادر منصبه السامي مرفوع الرٍأس طاهر النفس نظيف اليدين عزيزا مبجلا. وفي عهده الناصع الميمون كسدت الرشوة وبار استغلال النفوذ والمحسوبية والقبلية والجهوية، واطمأن أصحاب الحقوق على حقوقهم، وانتعشت الثقة ونمت في العدالة. وكنا نسمي عهده في المحكمة العليا بعهد عمر بن عبد العزيز!
إنه الرئيس والوزير والنائب والسيد كابه ولد اعليوه تغمده الله برحماته وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا وذويه الصبر والسلوان، وبارك في ذريته. إنه سميع مجيب.