هوس العودة L’obsession du retour(ح11)
…. بعد بضعة أيام، كتبت عدة رسائل إلى انكرتا، إلى والدتي –دون أن أنسى وضع صورة لميمونة –ووالدي وحامادو أخي ” من الأدب” الذي درست معه في الثانوية في بوكي. كان انشغالي يدور أسا حول تأقلمي مع ظروف حياتي الجديدة. وكان لدي ما أقوم به!حياة الطلاب، العزاب، في منزل خال من أية امرأة، تقوم على توزيع دقيق للمهام المنزلية: تنظيف المكان، الطبخ، غسل الأواني.. أمور يتعين تعلمها والتعود على القيام بها، أمر مهم في النهاية لكنه يثير سخرية جيلي من الفتيات اللائي بقين في القرية.. آه! عساهن لا يعلمن أبدا بهذا.. لو تخيلت زميلاتي الأشياء التي أعيشها.
الطلبة القدماء كانوا متمرسين حقا، مع أنهم كانوا يستمدون تفوقهم من وفرة وتنوع المواد المتوفرة. خضروات وفواكه بعضها كان مجهولا تماما بالنسبة لي: القشطة، الزبدة، وكافة أنواع مشتقات الحليب، وكم هائل من التوابل ذات الطعم والروائح الشهية تملأ موائدنا كلها، كان ذلك لذيذا جدا.. ففي منزل الآمال 4 حتى أرز الغداء، المطبوخ على الطريقة التقليدية استمد طعما استثنائيا جديدا، بفعل سحر تلك الخضروات والتوابل العجيبة.
تواصل المشهد السحري في الخارج وكان يكفيني كشاب قادم من الساحل، لم أعرف قط غير الحبوب والحليب عند أقصى حدود العطش بالتأكيد.. واللحم في حالات أكثر ندرة كي أشعر بالتخمة؛ عندما أقوم بجولة بين معروضات الأسواق، حيث ينتابني شعور بزيادة الوزن لمجرد إلقاء نظرة على تلك السلع.
مر أسبوع منذ وصولي إلى الرباط، بسرعة البرق، فقد تتالت الأيام مسرعة على وقع الذهاب والعودة بين وكالة التعاون (أما مكو) المكلفة بتسيير وضعنا، وبين منزل الطلاب الموريتانيين كنا نقيم في حي قريب من المحيط. وفي انتظار تسجيلي، رفقة زملائي الذين لم أكن اشترك معهم في اية علاقة قرابة، ولا حتى عرقية، نتقاسم الأفراح البسيطة للضيافة والتضامن الإفريقيين لم يكن يجمعنا غير وطنيتنا. وكانت قوية تلك الحياة اليومية المفعمة بالانتماء الموريتاني المشترك.
عندما استقل الحافلة باتجاه وسط المدينة حيث يقع مقر الوكالة، كنت أشعر بأننا لن تصل أبدا. ومع ذلك كان يقال لنا إن المسافة قصيرة جدا، بالنظر إلى اتساع المدينة بكاملها! أدرك، أكثر مما رأيت أثناء التحليق فوق الدار البيضاء ذات الأبعاد الأكثر ضخامة “كما يقول القدماء.. من باب إثارة مزيد من العجب لدينا دون شك.. لم هي صغيرة مدينة انواكشوط عاصمتنا؟.
كانت منازل الرباط مشيدة بشكل رائع، مرتفعة غالبا وجميلة خاصة في وسط المدينة، والشوارع معبد بشكل رائع، والحافلات كثيرة، وسيارات الأجرة تنتشر بجميع الأشكال، وفي الوسط تنتصب المحلات والوكالات جنبا إلى جنب مع أكشاك الصحف الزاخرة بالمنشورات، كما هو الحال بالنسبة للمكتبات والمقاهي، كما لم أر قط، كثيرة وتعج بالناس، في هذه الفترة لم يكن الموريتانيون يرتادون المقاهي النادرة في نواكشوط ذلك أن نمط حياتهم الذي ما يزال تقليديا جدا يقدم لهم أماكن أخرى متنوعة للقاء، فأبسط مكتب يتحول، بالمناسبة إلى صالون للأحاديث الترفيهية أو النقاشات الجادة، مع تناول بعض الفول واحتساء بضعة كؤوس من الشاي بالنعناع، حيث تسمو العلاقات الاجتماعية كثيرا على أية وظيفة أو إطار وظيفي، أبسط لقاء يتطلب جدولا زمنيا وفضائيا مخولا ، حسب اللحظة،للتعامل مع طبيعة ذلك النقاش. كل واحد يعرف جميع الناس تقريبا، بشرط أن يكونوا منحدرين من نفس المدينة نفس القبيلة، بل وحتى نفس المجموعة العرقية حيث أن طبيعة سكان كل حي باتت تخضع للانتماءات العائلية القبلية والعرقية..
في الرباط تحيط المقاهي، والفنادق والبنوك، العصرية الجذابة، بشارع محمد الخامس المحور الرئيسي وسط المدينة، وأثناء المرور عبره يشاهد المرء في نهايته منارة الجامع المركزي، مباني جميلة وضخمة ذات جدران عالية حمراء بعضها قديم جدا وبعضها الآخر يبدو أكثر حداثة، مما يدل على تعايش منسجم بين الحادثة والتقاليد، هذا الشغف المغربي بالحرص على الحفاظ على ماضي البلد، الغني بقصص الأمجاد التي تعجبني. بعض مداخل الأحياء ذات أبواب عملاقة (باب الحد) تتيح مرور السيارات والمارة، وكانت بعضها مطرزة بنقوش رائعة، وقد أثارت دهشتي حقيقة، تلك العمارات العملاقة التي كانت تمكنني من تحديد معالم الطريق والتي حفظت أسماءها بسرعة، لم أتصور أبدا، في بلدي سيارات تتعاقب عبر باب واحد ، هنا رأيت ذلك واقعا بكل بساطة.
يا للفرق بالمقارنة مع نواكشوط، تلك العاصمة التي لا تاريخ لها تقريبا ! سكانها يبلغون بالكاد ثلاثة آلاف سنة 1960 وكل شيء فيها ينتظر البناء! سكان سينحدرون في غالبيتهم العظمى من الأرياف النائية. مطبوعين بعادات وتقاليد بدوية تعود لآلاف السنين من الحياة تحت الخيمة والأعرشة الموسمية أو في الأكواخ المبنية بالقش و بالطين، على وقع حياة يومية كأنها ملحنة على أوراق موسيقية، نواكشوط برجالها المرتدين أثوابهم الفضفاضة، ذات اللون الأبيض، أو الأزرق، وأحيانا الوردي أو البني ,نساؤها بملاحفهن أو سرابيلهن الطويلة، تعكس نمطا مكتملا من تقاليد الملبس البارزة.
في الرباط يلبس الرجال، في الغالب الأعم، بدلات أوروبية كما تلبس النساء بنطلون سربال قصير، قميص.. ملابس تتناغم فيها الموضة والماركات.. وبعضهن يرتدين الجلباب التقليدي أو العصري، فيما تلبس أخريات ما يغطي كامل أجسادهن من الرأس إلى القدم، وحتى الوجه، ويتركن أحيانا مساحة للرؤية كي يتبين أين يضعن أرجلهن غير أن هذه الفئة لا ترى إلا نادرا.. كثيرا من الناس في الشارع والأرصفة دائما مكتظة تكثر حالات زحمة السيارات، والحوادث أيضا .
بطبيعة الحال.. باعة متجولون ينافسون الدكاكين ، وهم يروجون بضائعهم بأعلى أصواتهم، وهناك بعض المتسولين يمدون أيديهم عند مدخل أي مؤسسة ،وهم يراقبون بطرف العين الشرطي الواقف غير بعيد، ـأما أجدثهم سنا فيوجدون أحيانا- فيعملون على نشل أي شخص يمر خاصة حين يكتشفون أنه أجنبي، وفوق ذلك أنه قادم جديد.
كانت أيامي الأولى صعبة فقد شعرت بنوع من الرهبة إذ لا أعرف أحدا. فجأة انتقلت مشاعري الفطرية نحو الماضي، وأعادتني إلى ألاك، وإلى الأصدقاء الذين ما زالوا يجوبون القرى باستمرار، بينما أنا هنا، بعيد عن كل شيء، أنتظر دائما في لبراكنه، شارف موسم الخريف على نهايته، بينما يقترب موسم الأمطار في المغرب.. وبدأت الليالي تأتي مبكرا بشكل مضطرد ودرجات الحرارة تنخفض يوما بعد يوم إنه الشتاء بضرب أوتاده….يتواصل