موريتانيا، مخاض أم إرهاصات الفناء ؟
الحلبة الأولى/بقلم محمد فاضل ولد سيدي هيبه
لا أريد أن أكون جازما بهذه الدرجة لكن الوضع الراهن يشى بحتمية أحد الاتجاهين. إما ولادة مؤلمة لكن مع أمل تجاوز بلدنا الحبيب موريتانيا إلى بر الأمان، و إما لا قدر الله … صومال جديدة أو مصير على الشاكلة الليبية فى هذا الجزء من الوطن العربي و القارة الأفريقية. هذا على الأقل ما يدور هذه الأيام من جدل داخل الحلقات غير المصنفة للنخب الموريتانية فى البيوت و الصالونات و حتى عند عامة الشعب.
سيناريو كارثي
إن المؤشرات على المصير المخيف لهذا البلد لا تكاد تحصى. و كذلك تلك التى تدعوا للأمل و التفاؤل.
فى السيناريو الأول نرى الهشاشة العامة للدولة التى يصفها البعض بالمصطنعة. لم يكن لهذا الكيان على كل حال سلطة مركزية و لا إدارة منظِّمة بل كان فضاء مفتوحا تتصارع فيه قوىً شتى. أضافت لازِمةُ التصحر و كارثة الجفاف الذى حل بالمنطقة فى بداية السبعينيات من القرن الماضي تحدٍ كان له ما بعده من اختلال فى البنيات المجتمعية و من مآسي مادية و نفسية لا تُحصى، ثم لاحقا بروز تناقضات و ترسبات كانت نائمة لقرون فى حضن المجتمع القديم. فلم يعد أي شيء كما كان. فالمجتمع القديم، و إن استطاع المحافظة على الكيان الذى سُميَ فى ما بعد مُوريتانيا، كان محافظا كذلك و مُتكتما على عيوب قاتلة أبرزها تراتبية سيئة رأس الجليد فيها جريمة الرق التاريخية و الظلم الفادح لشرائح أخرى من المجتمع هي الصناع أو لمعلمين و المطربون (إيكاون) و القائمون على قطاع الماشية (أزناكه). هذا العامل ـ التراتبية و ما شابهها من مظاهر العنف المجتمعي ـ بدأ يُعبِّر عن نفسه و يتفلَّتُ من مختلف الضغوط على صورة قدر يغلى، متجاوزا أحيانا ما يعتبر تقليديا خطوطا حمراء مثل الدين و الإنتماء القومي و الحضاري و قاذفا إلى السطح الرواسب و القوى السلبية المكبوتة، العرقية و اللونية و الشرائحية و الأثنية الخ .. مما ينذر، إن لم يوقفه عقلاء قوم، بانفجار لا يمكن التأكد من بقاء كيان البلد متماسكا بعده. نلاحظ اليوم انفلاتا و بلطجة لفظية و تطرفا فى المواقف لم نشهده من قبل.
العوامل الخارجية المؤثرة سلبا كذلك كان أبرزها الهجرة الأفرقية الوافدة، المُتجنِّسة منها على وجه الخصوص، التى لا يقتصر فعلها على خلط الأوراق بل على أمورأخرى لاتخفى خطورتها البالغة مثل تغيير التوازن الديموغرافي و تدمير الثقافة و القيم المحلية. كما أن تسلل الأيادى الخارجية إلى هذه الهجرة و التأثير فيها بهدف توجيهها حقيقة لا يمكن تجاهلها بدليل ما قد وقع من اضطرابات فى فترات مختلفة من تاريخ البلد والتى كان هذا الحضور فيها جليا. أما فى الماضي القريب يذكر الجميع أعمال الشغب والعنف التى أوقعها مندسون أجانب أثناء الانتخابات الرئاسية الفائتة. لقد تم عرض صور من هذه البلطجة على شاشة التلفزيون و كان أبطالها شباب من مختلف الأقطار الأفريقية اعترفوا بالقيام بهذا التخريب و وصفوا بدقة ما قاموا به من حرق و تدمير للمنشآت العمومية و الخاصة.
من التحديات غير المباشرة لكن خطرها مُرعِب و قد حل كارثة على عديد من الدول هو ما اسطُلِح علي تسميته بلعنة المواد الأولية، و قد أصبح من المعروف على نطاق واسع أن موريتانيا تزخر بثروات غير اعتيادية نخشى أن يتكالب الطامعون على البلد طلبا لها مما سيعرضه و يُعرِّض أمنه و شخصيته الحضارية للخطر. إن هذه العوامل مجتمعة، ومعاول الهدم التى ذكرنا، زائدا الإرادات الخارجية المتربصة و غيرها، تنذر بزوال هذا الكيان و فنائه و ذهاب ساكنته أيدي سبأ.
خلاصة القول فى محور التحديات أن أية هزة بدرجة معينة من العنف ستعرض الكيان الموريتاني إلى السيناريو الصومالي أو الليبي. مع فارق أن هذين البلدين لا يخافان اقتطاع أجزاء من أراضيهما من طرف دول مجاورة .. بينما ستُجهز على الرجل المريض الأقطار التى لها معنا حدود فى غياب سلطته مركزية مرة ثانية فى التاريخ نتيجة للتمزق الذى ذسينتج عن الكارثة المرتقبة. ففى الشمال يذكر الموريتانيون مطالبة المغرب القديمة بالأقاليم الموريتانية، و فى الجنوب مطالبة السنغال بالضفة الموريتانية زائدا سبعين كيلومترا داخل البلد. مطالبة جعل منها المرشح للرئاسات السنغالية الأخيرة عثمان سونكو محور حملته. أما شرقا فيعتبر الماليون أن ولاية الحوض الشرقي مالية اقتطعتها منهم فرنسا فى يوم من الأيام … وحده المحيط الأطلسي فى الغرب سيتخلف عن حفل التقسيم !
قليلة هي الدول التى تستطيع امتصاص الهزات مثل تلك التى نتخوف منها، لعراقة مؤسسات هذه الدول و تماسك و اتحاد شعوبها. أما موريتانيا فليس لها مثل تلك المناعة والقدرة على مواجهة الهزات العنيفة للأسباب التى ذكرنا وأبرزها عدم وجود الأسس القوية الراسخة و غياب الوعي لمثل هذه الصدمات عند الشعب.
سيناريو رهيب كما ترون لكن لننظر الآن للوجه الآخر وجه الأمل و التفاؤل
سيناريو الأمل
إننا لا نصف و لا نفترض دولة مثالية و لا جمهورية فاضلة من وحي فلاطون لأن ذلك يبعدنا عن الواقع الماثل للعيان، أو المفترض انطلاقا من التحليل العلمي، لكن المؤشرات الإيجابية الكثيرة التى نراها على أرض الواقع ستُنسينا فى الكابوس الرهيب و تحملنا على التفاؤل فى مستقبل بلدنا هذا. على رأس هذه المؤشرات الغليان و الصخب و هذا الحراك و التفاعل المشاهد على كافة الصعد السياسية و الفكرية و هذه الصراعات التى نعيش راهناً بعد عقود من الركود و شبه نوم قوانا الحية. تفاعلات تصاحبها لاشك آلام و إكراهات من كل نوع لكنها ثمنٌ للتطورالحتمي والقفزة العظيمة المتوقع حدوثها فى هذا البلد. موريتانيا اليوم لا تشبه موريتانيا فى أي وقت من تاريخها. إن الوعي الحضاري الذى أصبح يبديه شعبنا و نخبه المثقفة و يلعب فيه العلم و التعليم بمفهومه الواسع، المدرسة المحظرة الإعلام التواصل الرقمي التواصل الاجتماعي، و حرية التعبير التى لولاها يظل الجهل و التخلف و الظلم سيد الموقف مانعةً كل هذه العبقريات من أن تتفتق، ثم الإثراء الناتج عن الانفتاح على تجارب الشعوب الأخرى .. كل ذلك، مضافا إليه دينامية التفاؤل التى يبدوأن أتى بها الحكم الجديد و رئيسه محمد الشيخ الغزواني، يبعث فى النفوس نوعا من الأمل و الاطمئنان على المستقبل القريب بفضل الله ثم لذكاء الإنسان الموريتاني المشهود. قبل ذلك كله فقد منَّ الله على هذا البلد بأن جعل شعبه كله يدين بالإسلام و يتبع مذهبا واحد مما يضمن له الانسجام و التسامح بين مختلف فئاته. هذا وإن كان الوعي، الذى لا ينحصر فى الطبقات المتعلمة أو المثقفة فحسب، و إنما أيضا عند ساكنة البوادى و الأرياف نساء و رجالا و شبابا، مع هذه الطفرة المعرفية، هما الثروة الحقيقية التى لا تنضب، فإن ثروات أخرى محسوسة كثيرة تُمنِّينا بازدهار لا نكاد نحلم به .. ثروات فى الأرض و على الأرض و فى البحر.. و حتى فى السماء (الشمس) .. هل هوإفراط فى التفاؤل؟ كلا، إنه واقع ملموس يمكن لأي أن يطلع عليه. أما الدخول فى تفصيله فيستدعى وقتا.
الحراطين
تحظى هذه الفئة من الشعب الموريتاني منذ سنوات عديدة باهتمام لم يسبق له مثيل فى تاريخها المعاصر من النُّخب السياسية و المثقفين و الإعلام. لم يأت ذلك اعتباطا بطبيعة الحال فلهذه الفئة سجل حافل من النضال و كما هو معروف فلها خاصية أن معظم أفرادها منحدرون من رجال و نساء مورس عليهم الرق البغيض من دون مُسوِّغ ديني أو قانوني و وجدوا اليوم أنفسهم وسط حراك حميدٍ عنوانه حقوق الإنسان و حرية التعبير و نية عامة الفرقاء السياسيين و مختلف النخب فى الارتقاء بالبلد فى جميع المجالات و تحقيق العدالة و المساواة للشعب كافة و بعبارة واحدة بناء دولة مدنية عصرية تعم فيها الحرية و العدالة. بدأ الوعي يدب فى هذه الفئة و انطلق نضالها فى منتصف السبعينيات من القرن الماضي بالتوازى مع التطورات الكبرى التى شاهدتها البلاد فى هذه الحقبة التاريخية. تغيير النظام بانقلاب عسكري فى العام 1978، الحكم العسكري، الديموقراطية فى ظل حكم ولد الطائع الذى دام عشرين سنة، المرحلة الثانية من الديموقراطية، وصولا إلى اليوم بداية سنة 2020.
الجدير بالذكر فى هذا السرد التاريخي أن محاربة العبودية و مخلفاتها كانت فى وقت مبكرعلى رأس مطالب الحركات الاحتجاجية المعارضة لنظام المختار ولد داداه آنذاك و من ضمنها العبثيون الذين ثمن ذلك من الاعتقالات و أنواع التنكيل و التعذيب و هم أول من أصدر دراسة شاملة فى الموضوع نشر فى كتاب بعنوان “البعث و الحراطين”. ثم جاءت منظمة “الحر” التى ستلعب فى ما بعد دورا أساسيا فى هذه القضية الوطنية البارزة.
تتجلى تجربة أزيد من أربعين سنة من نضال فئة الحراطين فى حضورهم الطاغي فى المشهد السياسي الوطني اليوم بأحزابهم و منظماتهم و شخصياتهم البارزة، ما يجعل منهم رقما صعبا لا يمكن تجاوزه فى العملية السياسية و لا فى التطور العام للبلاد. بل إنهم مُهيؤون بحكم عددهم لتسلم مقاليد السلطة فى المستوى المتوسط و يُعوِّل عليهم التيار القومي العربي بصفة خاصة فى أخذ مشعل إعادة توجه موريتانيا صوب الأمة العربية، كونهم فى الغالب لم يتلوَّثوا بأدران الفرنكوفونية و الثقافة الاستعمارية. أما الوجه الآخر لما يسمى قضية الحراطين فهو ما يدَّعى بعضهم من أن الاسترقاق ما زال موجودا و ينفيه طيف من الحراطين و من غيرهم، معتبرين أن الأمر يتعلق بمخلفات الرق الثقيلة فحسب و ليس الاسترقاق بشكله القديم. بغض النظر عن صواب أوعدم صواب هاتين الرؤيتين لا يمكننا إلا أن نعترف بأن العبودية كنظام و ممارسة انتهت دون رجعة، وإن كانت حالات قليلة منها تذكر فى البوادى حيث الوعي ما زال متدنيا .
تمُرهذه التجربة بطبيعة الحال مثل كل التجارب الإنسانية بصعوبات و تحديات أبرزها الفرقة فى مابين مختلف مكوِّناتها، الناتج فى جزء كبير منه عن عدم وضوح الرؤية لدى القادة. فقد غاب الخصم الذى توضع من خلال مواجهته الخطط و تُرسم التوجهات. فمن المعلوم أن التشكيلات السياسية الوطنية الأخرى كلها تؤيد الخطوط العريضة لهذ الحراك و لا يوجد من يعارضه، فضلا عن إجماعها حول مسألة تجريم الرق. لم تعد إذن ورقة محاربة الرق بذات القدرة التعبيئية و ما زالت مخلفاته تغذى الجانب ألمطلبي من الحراك العام. أما ما دام الموضوع كله يعنى الطبقة السياسية بما فيها فئة البظان البيض و فئة الزنوج فلا مبرر لوجود أحزاب سياسية خاصة بالحراطين و يجب بدل ذلك الانصهار فى الطبقة السياسية التى تضم كل المكونات.
من التحديات و العراقيل على طريق سير هذه المنظومة عملية التشويش و محاولة بث الفرقة التى تقوم بها أطراف تتكلم باسم الحراطين فى الوقت الذى وَلاؤها لأطراف من غير المنظومة الحرطانية. يبرز هنا إسم منظمة “إيرا” الحقوقية لزعيمها النائب المثير للجدل بيرام الداه عبيدى. الجهة التى تتحرك “إيرا” و زعيمها لصالحها هي منظمة “فلام” البولارية المعروفة و التى بفضل مساندتها و تعبئة صفوفها، بمن فيهم الأفارقة الأجانب، استطاع بيرام الوصول إلى المرتبة الثانية فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لقد شكلت الإطلالة الأخيرة للرجل و تصريحاته النارية بمناسبة منحه جائزة الشجاعة فى العاصمة السويسرية جنيف من طرف هيأة أممية لحقوق الإنسان تبيَّن أن رئيسها و أعضاءها يهود و بعضهم مقرب من دويلة “إسرائيل”، إطلالة شكلت تفاعلا و رد جميل مستحق من بيرام لمنظمة “فلام”. ذلك لأن الخرجة تضمنت شتْم و سبَّ البظان بأشنع العبارات و اتهام بلده موريتانيا بأنه مركز الآبارتايد العربي الا سلامي. كلام وقع كأجمل موسيقى فى آذان الفلاميين.
لقد استطاع التيار القومي البولاري منذ فترة و بعد جهود متواصلة، بفضل تعاون بيرام اختراق الفئة السمراء من المجتمع البظاني، جاذبا إليه العديد من أفراد الحراطين، متسببا فى الوقت ذاته فى إضعاف الحركة الحرطانية ككل و تحويل وجهة نضالها باستنزاف عناصرها خدمة لأغراض بعيدة عن أهدافها المرسومة. يتجلى ذلك فى تفانى بيرام و منظمته “إيرا” فى مشاركته التظاهرات الرمزية التى قامت بها “فلام” سواء فى سورى مالى أو إنال أو نواكشوط، و فى خطاباته الملتهبة التى يشتُم و يسبُّ فيها البظان بأشنع النوت ..
على الرغم من هذا الاختراق الستراتيجي فقد بدأ الحراطين يكتشفون أن الرجل ليس كما يدعى حقوقيا مدافعا عنهم مُشهِّرا سيفه فى وجه الاسترقاقيين لتحريرالعبيد من قبضتهم !.. مع ذلك فقد صار لزاما على رموز هذه الجماعة أن يعلنوا بطريقة أو بأخرى، و بالسرعة المطلوبة، موقفهم من هذا “الفارس المغوار” الذى يتحدث باسمهم و صار يسرق منهم ـ لنقلها صراحة ـ الأضواء داخليا و خارجيا “ببطولاته” و خطاباته الشعبوية التى تدغدغ آذان البسطاء. ليحذروا أن يُفسَّر صمتهم على أنه قبول، مما سيكون له انعكاس على موقف الآخرين منهم .
. ظاهرة بيرام تحث على ضرورة تأكيد صانعي القرار من فئة الحراطين رسميا ـ وقد تأخروا كثيرا فى ذلك ـ انتماءها العربي كونها ليست قومية منفصلة و لا تنتمى لقوميات الزنوج رغم سواد بشرة أفرادها و الأصول الأفريقية لأغلبهم. فالعروبة وأي انتماء آخر لا يحدده اللون و لا العرق لكن الثقافة و التاريخ و نمط العيش و العادات و لتقاليد الخ، و لا يمكن لأية مجموعة بشرية الانفكاك عن هويتها حتى إن أرادت ذلك لأن الهوية مثل القامة و ملامح الوجه و الشعرو لون العينين إلخ .. فإنها تولد مع الاتسان. أما قول البعض عن جهل أو عن غرض إن من حق كل إنسان تحديد انتمائه، كذا .. فهو كلام لا معنى له علميا، فلا دخل لأية مجموعة بشرية فى انتمائها القومي المحدد سلفا. وعلى كل حال لا مبرر لهذا التذبذ المصطنع الذى لا يخدم أية قضية.
إن إزالة اللبس رسميا حول الهوية العربية لهذه الفئة المحترمة من شعبنا الموريتاني أصبحت ملحة لأن من شأن إزالة هذا اللبس إعطاء دفع لنضالها مع مزيد من المشاركة لإخوتهم البيض و لقطع الطريق على أية محاولة للتشويش فى المستقبل، خاصة الخلط المُتعمَّد أو غير المتعمد عند البعض بين الهوية كمعطى طبيعي ثابت و الحالة الطبقية و الاجتماعية و الاقتصادية المتغيرة لمجموعة بشرية مُعينة.