مرافعة أمام الغرفة الجزائية الجنائية لدى محكمة استئناف نواكشوط (7)

ثاني عشر: من عجائب وغرائب هذا الملف أن مناط جميع التهم الموجهة فيه إلى الرئيس الباني محمد ولد عبد العزيز وكبار المسؤولين البناة النزهاء الأوفياء المتهمين معه ظلما، تتعلق كلها بقرارات سيادية اتخذتها الحكومة والبرلمان بإنشاء مشاريع وبُنى تحتية عملاقة وصروح شامخة خلال عشريتهم الذهبية، مثل مطار أم التونسي، ومستشفى القلب، ومستشفى الأنكلوجيا، ومستشفى الفيروسات (الذي استقال مديره منذ أسابيع احتجاجا على إهماله وتدميره) وإنتاج وتوزيع الكهرباء وخطوط الجهد العالي، وتغيير واجهة العاصمة، وبناء المدارس وتنمية المنطقة الحرة.. إلخ. وسآخذ ثلاثة أمثلة على ذلك هي:
* صفقة المطار: يحققون في تبديد ممتلكات الدولة العقارية في صفقة المطار، ويسأل بعضهم افتئاتا على السلطة التقديرية لرئيس الجمهورية ولمجلس الوزراء: لماذا لا تجرون مناقصة وتتعاقدون مع شركة دولية؟ وكأن المأسوف عليه هو خسارة الشركات الغربية لصفقة المطار وعدم حصول سماسرتها على عمولة، وأن الدولة استفادت من الأراضي التي كانت تُبَدَّدُ وتنهب في غير طائل! علما بأن الشركات الغربية طلبت مليار دولار ثمنا لإنجاز المطار. وقد أنجزته شركة النجاح على أحسن وجه (وبرهن على ذلك استقباله قبل أيام لأضخم طائرة في العالم جاءت بمعدات علاج تسرب الغاز في بحرنا المسكين) مقابل أربعمائة وثلاثة وخمسين (453) هكتارا ثمنها بالسعر العادي قياسا مائة وأربعة وثلاثون (134) أوقية للمتر المربع يساوي: خمسمائة وثلاثة وتسعين مليونا وتسعمائة وثلاثة وثلاثين ألفا وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين (593.933.333) أوقية قديمة. أي نحو مليوني (2) دولارا بدل مليار (1) دولارا! فمطار نواكشوط التحفة قد أنجزته العشرية بمليوني (2.000.000.000) دولار، وأنجزته شركة وطنية كبيرة كانت تستحق التهنئة والتقدير والمكافأة بدل المتابعة والإذلال ونكران الجميل!
* صفقة إقامة خط الجهد العالي بين نواكشوط ونواذيبو والشركة الهندية “كولباتيرو”. كان مشروع إقامة خط الجهد العالي بين نواكشوط ونواذيبو ممولا من طرف المملكة العربية السعودية بغلاف مالي قدره مائة وأربعة وأربعون (144) مليون دولار، منح الممول صفقة إنجازه لشركة سعودية قاولت عليه شركة هندية متخصصة تدعى كولباتيرو. وقبل بدء العمل نشب خلاف بين الشركتين سَبّبَ تخلي السعوديين عن تمويل الخط. فنشأ على إثر ذلك نزاع بين الشركة الهندية والحكومة الموريتانية حول استرجاع ضمانة مالية كانت قد أودعتها في أحد البنوك قدرها عشرون (20) مليون دولارا نص عليها عقد المقاولة وكانت موريتانيا تريد سحبها جزاء على عدم إنجاز المشروع. وفي هذه الأثناء، وبعد تدخلات من سفارة الهند بمالي بغية تسوية موضوع الكفالة، تقدمت الشركة الهندية بعرض تبحث بموجبه عن ممول يحل محل الممول السعودي المنسحب وتتولى هي إنجاز المشروع. وقبلت موريتانيا العرض. وجاءت كولباتيرو باعتماد تمويل للمشروع واستقبلهم الرئيس في مكتبه بحضرة المترجم الذي هو الحسن ولد محمد مدير التشريفات الذي طلبنا الاستماع إلى شهادته في الموضوع. وقال لهم الرئيس إن موريتانيا لم تعد مقتنعة بالتكلفة الأولى وستتفاوض معكم حول الصفقة عن طريق وزير الطاقة الذي أمره بأخذ فريق من معاونيه والتفاوض على أقل ثمن مع المقاولة وظلت المفاوضات مستمرة إلى أن وصلوا إلى مائة وعشرة (110) ملايين دولار بدل مائة وأربعة وأربعين (144) مليون دولار ثمنا للمشروع نفسه وبالمواصفات نفسها، وتم الإنجاز على أحسن ما يرام وفي الآجال المحددة لذلك! تلك هي حقيقة هذه الصفقة التي استخلص منها السيد المدعي العام – سامحه الله- أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز حوّل رئاسة الجمهورية إلى مكتب للسمسرة! وقد أقام الادعاءان الدنيا ولم يقعداها بسبب هذه الصفقة الواضحة الفائدة! وكانت الأسئلة: لماذا لم تتم الصفقة عن طريق مناقصة؟ وكأن كولباتيرو سفيهة أو مجنونة تحصل على تمويل من بنك هندي بضمانتها تدفع عليه الفوائد لمشروع، وتُعْطَى صفقة إنجازه لغير! لما ذا يستقبل رئيس الجمهورية الشركة الهندية؟ لأنه رئيس الجمهورية! إلى غير ذلك من الأسئلة والتعليقات التي تصب دائما في نفس الاتجاه: حماية المصالح الغربية والسماسرة الموريتانيين! وذلك إما لشيطنة وتبخيس تلك المنجزات بإثارة الشبهات التافهة حولها، وإما لتكريس تجريم خدمة الشعب وتنمية الوطن التي طارت بها العنقاء في وطننا بعد العشرية الذهبية.
* بيع المدارس: وفي هذا المثال، فلن أزيد بشطر كلمة على التصريح الذي أدلى به السيد الوزير الأول الأسبق يحيى ولد حد أمين أمام البرلمان ردا على سؤال حول الموضوع، وهذا نصه: “وهذا السؤال سؤال تكرر وأثيرت حوله ضجة كبيرة، وأود أن أقول لكم إن أربع مدارس بيعت: التي كانت في السوق، والتي كانت تسمى École justice (مدرسة العدالة) والمدرسة رقم 7، والتي بتفرغ زينه، وبيع معهن بعض مدرسة الشرطة، وبيعت “ابلوكات” مكانهن، وبيع الشريط الذي بجانب الملعب. جميع هذا ثلاثة هكتارات ونصف، هذه الهكتارات الثلاثة والنصف، وهل تعلمون ما كان يمنح من الأرض قبل 2009؟ منحت 30 ألف هكتار. 30 ألف هكتار منحت في سنتين، دون أن تنال منها أوقية واحدة. هذه الهكتارات الثلاثة نيلت منها 10 مليارات و182 مليونا و850، وجرى بيعها بالمزاد العلني. يقولون: بيعت بطريقة غير واضحة. بيعت بطريقة واضحة وبالمزاد العلني، ويمكن القول بعدم الوضوح عندما تقع إحدى هاتين المسألتين: أن يتقدم أحد للمشاركة فيمنع، أو تمنح لغير صاحب العرض الأكبر، إذا وجدتم إحدى هاتين المسألتين فما قيل صحيح. هذه المليارات العشرة من ثلاثة هكتارات ونصف فيها 4 مدارس أنشئ منها برنامج يسمى Pac شيدت فيه 75 مؤسسة تعليمية، منها 45 مدرسة ابتدائية كاملة من النمط الجديد، ومنها 17 إعدادية و9 ثانويات امتياز، وثانويتان نموذجيتان، إحداهما بكيهيدي والأخرى بالشامي، ومنها مدرستان لتكوين المعلمين. أنجز هذا بسبعة مليارات وستمائة وانتهى كله.
كم منه في انوكشوط الذي أخذت منه أربع مدارس؟ منه 11 مدرسة في انواكشوط، 6 منها بتوجنين، و3 في الرياض، وواحدة في لكصر.. إلى آخره. ومنه إعدادية وثانوية للامتياز في لكصر، ومنه مدرسة في منطقة كان أهلها محرومين من المدارس هي Cité Plage (حي الشاطئ) ومدرستان بتفرغ زينه. إذا كان هذا غامضا فإننا نتبنى الغموض، وإن كان غير وارد فما ليس واردا إذن هو ما ينبغي.
ثانيا هذه المدارس لا أعلم إن كنتم زرتموها. أنا زرتها. في مدرسة العدالة يكون في الحجرة الواحدة 15- 16 تلميذا، لماذا؟ لأن السكان نزحوا من هناك، ولا يأتون بأبنائهم هناك، وإنما يأتي التجار المجاورون بأبنائهم، ولا شك أنهم لا يمكن أن يدرسوا بسبب روائح الدخان، وأصوات المكبرات ووسط السوق.
إذن فهذا يبدو لي أنه واضح، ولا ينبغي أن نظل كلما أنجز شيء أثيرت حوله شكوك، والسلطة التقديرية للسلطة التنفيذية وهي مسؤولة عنها.
فهل ما نراه في هذا الملف الكيدي هو محاربة الفساد، أم محاربةُ محاربةِ الفساد؟ إذ بينما يجرم القانون ويعاقب نفخ وتضخيم الفواتير، نرى المشرفين على تنفيذه يجرمون ويعاقبون خفضها وخدمة الأمة وحماية مصالحها!
ثالث عشر: ومن سخرية وعبثية هذا المشهد المؤلم أن جميع القرارات المدعى أنها مخالفة للقانون هي إما قرارات سيادية صادرة من مجلس الوزراء الذي لا يخضع في تقديره لما يقوم به من عمل لوصاية أي من السلطتين التشريعية والقضائية، ومن بينها ما صادق عليه البرلمان؛ أو قرارات متخذة من مجالس إدارة شركات ومؤسسات كسنيم، مثلا هي السلط العليا في تلك الشركات والمؤسسات.
ذلكم باختصار شديد عن الدعوى بصفتها:
– دعوى كيدية غير جازمة، ولا محددة، وغير مألوفة،
– دعوى مخالفة لنص دستوري مؤكد بقرار من المجلس الدستوري،
– دعوى مجردة لا يملك عليها مدعوها أدنى بينة!
وبالتالي فهي دعوى لا تقبل.
أما كيف اتهم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بالفساد، ومن اتهمه، ولماذا؟ فتلك مسألة أخرى أكثر غرابة وتعقيدا!
وسنتطرق إليها فيما يلي.
في الحلقة القادمة:
2. الانقلاب الناعم على النظام!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى