بين التعميم والواقع: ترسيم اللغة العربية في الإدارة الموريتانية… ذاكرة قصيرة أم إرادة متقطعة؟

بقلم: أحمد محمود محمد أحمدُ (جمال)

في مطلع سبعينات القرن الماضي، أطلق الرئيس المؤسس المختار ولد داداه سلسلة من المبادرات لترسيخ اللغة العربية في الإدارة الموريتانية الوليدة. لم يكن ذلك مجرد شعار عابر في مرحلة المدّ القومي، بل توجهًا عمليًا حمله تعميم رئاسي صريح وُجّه إلى الوزراء، حُدّدت فيه الإجراءات الواجب اتخاذها لتطبيق ترسيم العربية في التسميات، واللافتات، والشعارات، والهوية البصرية للمباني العمومية.
ومن اللافت أن هذا التعميم لم يقتصر على البعد الرمزي، بل تضمّن توجيهًا واضحًا إلى الوزارات بإرسال هياكلها التنظيمية إلى إدارة الترجمة، باعتبارها الجهة المخولة بضبط المصطلحات وتعريبها بدقة، تفاديًا للارتجال والخلط الذي قد يصاحب أي عملية تحول لغوي.
لم يكن التعميم حدثًا معزولًا؛ ففي 12 ديسمبر 1970، وجّهت الأمينة العامة لوزارة الخارجية، السيدة تركيا عبد الله داداه، منشورًا إلى السفراء والقناصلة العامين، تحثهم فيه على التطبيق الفوري لتعليمات الرئيس، وطلبت منهم تقارير تفصيلية حول ما تم اتخاذه من إجراءات في هذا الصدد. وتبعتها لاحقًا، في 13 مارس 1980، مذكرة أكثر حزمًا من وزير الخارجية محمد المختار ولد الزامل، ألزم فيها البعثات الدبلوماسية باستخدام اللغة العربية، مع التأكيد على ضرورة إثبات استلام التعميم.
وقد أثمرت هذه التعليمات نتائج ملموسة آنذاك، رغم محدودية الوسائل الفنية والبشرية المتخصصة، بدليل وجود وثائق رسمية هامة – مثل دفتر الالتزامات المتعلق بمناقصة طريق نواكشوط – النعمة – صيغت في شقيها الفني والمالي باللغة العربية.
غير أن هذا المسار شهد لاحقًا تراجعًا ملحوظًا. فقد انحسرت العربية أمام موجة من “الازدواجية المُرحّلة”، ثم أمام تغوّل نمط إداري مفرغ من الدقة، تجسده ظاهرة “النسخ واللصق – copier-coller”، حتى في مؤسسات يتزايد فيها عدد الكفاءات والتقنيات.
وتُطرح هنا أسئلة مؤرقة: متى بدأ هذا التراجع؟ ولماذا؟ وكيف يمكن تصحيح المسار؟
من المؤسف أن المشكلة ليست في غياب القرارات، بل في غياب آليات تنفيذها واستدامتها. فقد ظلت المبادرات تتكرّر، وكان آخرها تعميم صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية، يشدد على حصر المراسلات الإدارية باللغة العربية. غير أن ذاكرة المؤسسات بقيت قصيرة، وإرادة التتبع ضعيفة.
وما يزيد من مرارة المفارقة أن لحظة تاريخية – في عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع – شهدت إلزام بعض الوزراء بتعلّم اللغة العربية، باتت تُروى كطرفة يُتندّر بها، لا كسياسة عمومية جادة، فيما تتوارى المحاولات الجدية خلف ركام من العوائق الإدارية والتقنية والنفسية.
إذًا، المطلوب اليوم ليس قرارًا جديدًا، بل آليات صارمة ودائمة، ومقاربات تربوية وتعليمية، ونخب تؤمن بأن اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل حاملة للهوية، ومرآة للسيادة، ووعاء للفكر والسياسات العمومية.
فهل آن أوان استعادة الذاكرة؟
أم أن العربية ستظل في الإدارة عنوانًا مؤجلًا؟
الجواب رهن بإرادة لا تكتفي بالتعميم، بل تلتزم بالترجمة الحقيقية: من القول إلى الفعل.

AMMJ



مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى