بين نية الإصلاح وإغراء السيطرة
محمد الأمين لحويج
يبدو أن النظام في بلدنا بدأ بخطوةٍ جادّة في محاربة الفساد، وهي خطوةٌ صائبة في ظاهرها، بغضّ النظر عن مدى شفافية محكمة الحسابات والمفتشية. غير أنّ السؤال الجوهري يظلّ قائمًا: هل سيؤدي هذا القرار إلى منح سلطةٍ مفرطة لأعضاء المحكمة والمفتشين؟ وهل سيصبح المفتش وعضو محكمة الحسابات والمدوّن والصحافة أصحابَ سلطةٍ يُمكن أن تُستعمل عن قصد أو غير قصد في ابتزاز المسؤولين؟ ثمّ، هل سيصبح ذلك المسؤول منبوذًا داخل حاضنته الاجتماعية، لمجرّد أنّه خضع للمساءلة؟
إنّ مؤسساتنا تعاني من تداخل الصلاحيات وغياب التنسيق، داخل المؤسسة الواحدة وبين المؤسسة والمؤسسات الأخرى.
حين تتشابك الصلاحيات، تُصاب الإدارة بالشلل. فهل سنشهد مزيدًا من الصراعات بين المحاسب والأمين العام والوزير والمدير المالي؟ وهل يؤدي ذلك إلى توقّف الإدارة فعليًا؟ ثم ما هي المعايير التي تحدد سوء التسيير؟ وما هو الأمان أو الضمان للمسير حتى لا يكون ضحية مفتشٍ أو عضوٍ في محكمة الحسابات أو مدوّنٍ متسرّع؟
وما المقصود أصلًا بالمشمولين في تقارير محكمة الحسابات؟ هل كل من وُجّه إليه استفسار من محكمة الحسابات يُعدّ متهمًا؟ وهل يجوز التشهير بكلّ من ورد اسمه في تقريرٍ لمجرّد ذكره؟ وما عقوبة من يشهّر بمظلوم؟ إنّ القول بأنّ كل من ورد اسمه في تقريرٍ متهمٌ، دون تمحيصٍ أو تبيينٍ، هو عين الفساد نفسه. فالعدالة لا تُقاس بعدد الملفات، بل بميزان الإنصاف واحترام كرامة الإنسان.
وما قد لا يدركه البعض أن من أسباب سوء التسيير الانسداد الذي تعيشه الإدارة، وضعف التنسيق، وعدم وضوح المهام، فضلًا عن غياب الكفاءة في مواقع المسؤولية. ولا شك أن هذه الإجراءات رغم نواياها الإصلاحية قد تؤدي عمليًا إلى تعطيل عمل الدولة، وتجعل الموظف يعيش في دائرة الخوف والجمود. وحين يغيب الأمان الإداري، لن تكون هناك أي مبادرات للنهوض بأي قطاع، ولا سياسة اقتصادية أو اجتماعية فعالة، لأننا وبكل بساطة سنكون أمام فاتورة بدل مشروع.
إنّ غياب إدارة مشاريع فعالة، وافتقارنا إلى بروتوكولٍ واضحٍ يحمي المسؤول ويحدّد صلاحياته، هو ما يُكرّس الفساد الحقيقي. فالخطوة في محاربة الفساد جيّدة، لكنها تحتاج إلى عدالةٍ متوازنةٍ تحمي النزهاء وتضع الشخص المناسب في المكان المناسب. وخصوصًا بعد عزل عشرين موظفًا ساميًا، يبرز السؤال: هل سنولّي كما قال همّام الأمر إلى عبد الرحمن
ﻭﺃﺑﺎﺵ ﺃﺗﻢ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺃﻛﺮﺍﻥ
ﻣﺴﺘﻘﺎﻡ اگرانو Toujours
واباش إتّم العرب ؤ لمدان
دون اجور اتكرّر. Bonjour
ﻭﺃﺑﺎﺵ إتَم ﺇﻛﻞ ﺍﻟﺒﻬﺘﺎﻥ
. ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﻭﺃﺷﻬﻮﺩ ﺍﻟﺰﻭﺭ
ﻭﺍﻟﻮ ﻟﻤﺮ ﺍﻝ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ….
فمن هو «عبد الرحمن» في هذه الظرفية؟ وكيف سيتم اختياره؟
مهما يكن، يبقى السؤال العملي مُلحًّا: ماذا بعد هذا القرار؟ وما هي الوضعية الحالية التي يعيشها الجهاز الإداري والرقابي بعد موجة محاربة الفساد؟ من موقع المراقب، يبدو أن النظام دخل مرحلةً دقيقة تتأرجح بين نية الإصلاح وإغراء السيطرة. فالتدقيق والمحاسبة قد يتحوّلان من أدواتٍ للشفافية إلى أدواتٍ للهيمنة، ومن فضاءٍ للعدالة إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات أو استعراض الولاء.
إنّ أخطر ما يواجه أي نظامٍ في لحظة التحول هو أن يفقد القدرة على التمييز بين الخطأ الإداري والخطيئة السياسية. فحين تُعامل كل زلّةٍ بسيطةٍ كجريمة، يتجمّد القرار الإداري، ويتحوّل الموظف إلى كائنٍ متوجّسٍ يختار الصمت بدل المبادرة.
الحكمة التي يحتاجها النظام اليوم هي القدرة على تحويل الأخطاء إلى إنجازات، عبر فهمها والتعلّم منها. فالحكيم لا يُعاقب كل خطأ، بل يُحوّله إلى معرفة. وتلك هي الخطوة التي تسبق الإصلاح الحقيقي: أن يتعلم النظام أن الاعتراف بالخلل ليس ضعفًا، بل بداية القوة.
وفي ظلّ هذه التغيّرات، يحتاج الوطن إلى سياسةٍ حكيمةٍ متوازنة، لا تُفرّط في المساءلة، ولا تُضيّع العدالة.
محمد الأمين لحويج