طفولتنا على ظهر ميناطة
أحمد محمود جمال أحمدُ

لم تكن الطرق في زمننا معبّدة، ولا الهواتف تنذر بالوصول. كانت هناك سيارة وحيدة، متفرّدة، يعرفها الكبير والصغير، ويحفظ صدى صوتها الوديان قبل أن تصل. اسمها “ميناطة”، نسبةً إلى مالكها أحمد ولد ميناط، لكنها لم تكن مجرد سيارة، بل كانت موعدًا يوميًّا مع الحياة.
تنطلق كل عصر من قلب مدينة أطار، تحديدًا من شارع عبد الله ولد عبيد، تتهادى في سيرها مثل قافلةٍ تعرف طريقها بالألفة لا بالإسفلت. تمرّ بـ”تراون”، تستنشق نسائم النخيل في “الزيرة”، وتلوّح لسكان “تويزكت”، قبل أن تُكمل المسير نحو وجهتها الأخيرة: اكصير الطرشان، حيث تنتهي الرحلة وتبدأ الحكايات.
لم تكن “ميناطة” تعرف معنى للعجلة، بل كانت تسير على مهل، كأنها تحترم الزمن وتوقظ الذكريات. كانت أشبه بمجلس متنقّل، يلتقي فيه سكان الوديان، يتبادلون الأخبار والضحكات، ويتقاسمون خبز زدفة وكازا، وبسكويت سرقلة وفول السودان، والماء والنكتة الطريفة. يجلس أحدهم على المقعد الأمامي، وآخر على كيس شاي 8147 ، وثالث على عتبة الباب، والبقية على السطح أو متعلّقين بالجوانب، كأنهم جزء من جسد الحافلة.
أجرة الركوب؟ حديث جانبي بين الراكب والسائق، لا عقود ولا تذاكر. قد تدفع اليوم، أو غدًا، أو حين تفرغ الجيب. لا أحد يسأل، فالثقة متبادلة، والرحلة أهم من التفاصيل.
صاحب “ميناطة” رجل هادئ، يلوّح للمارة كمن يعرف الجميع، يبتسم وهو يتوقف لطفل على الطريق، أو امرأة تحمل قفّة، ويتأخر أحيانًا ليجمع ركابًا من وادٍ بعيد، ولا يضجر إذا ما أُوقف لطلب دعاء أو سلام.
وفي كل رحلة، كانت “ميناطة” تكتب فصلًا جديدًا من الود والمعرفة، وتسافر وهي تحمل معها أرواح الناس، لا أجسادهم فقط.
ورغم أن “ميناطة” قد غابت عن الطرق، وتلاشت آثار عجلاتها تحت رمال النسيان، إلا أن ذكراها ما تزال حيّة في وجدان أهل أطار والوديان. يذكرها الشيوخ بحنين، ويرويها الآباء لأبنائهم كحكاية من زمن الطمأنينة، حين كانت الرحلة أغنية جماعية، والسيارة مجلسًا يعبر الأرض والقلوب معًا.
حتى الذين لم يركبوها، يعرفونها من القصص والابتسامات التي تتبع اسمها. لقد أصبحت “ميناطة” جزءًا من الذاكرة المحلية، رمزًا لطفولة لا تُنسى، ومرحلةٍ من البساطة والتكافل، لا توثّقها الصور، بل تحفظها القلوب.
رحم الله السلف الصالح، وغفر لأحمد ولد ميناط، طيب الذكر، فقد خلّد اسمه في الذاكرة كما خلّد الطريق بصبره وطيب معشره.
تنبيه : الصورة ليست << ميناطة>> وإنما هي صورةتوضيحية لوسائل النقل في ذلك الزمن