فِي تَأْبِينِ الاسْتِقَامَة والأخْلَاق..

القاضى أحمد المصطفى

أرْبَعُ سنوات أحسنتْ إلَيَّ أيامُها بصحبة ومرافقة أحد نبلاء وأجاويد الزملاء القضاة، الشاب العارف الطيب تقي الله الشيخ محمد فاضل رحمه الله تعالى..
تَنْثَنِي عليّ ذكرياتها اليوم توجعني حزنا وحسرة على فقده الأليم الكبير..
أربعُ سنوات:
أحْسَنْ بِيهَ ذَ الدَّهر أُصَدْ:: اگبل غير الدّهر أتْفُ بِيهْ..
مَا يَحْسَن بَيَّامْ أعْلَ حَدْ:: مَا بَيَّامْ أخْرَ سَاءْ أعْلِيهْ..كما يقول أديب آفْطُوط أربان ولد أعمر ولد محم..
أربع سنوات جمعتني فيها وظيفة واحدة ومكان واحد وعمل ومتاعب مشتركة مع تقي الله، فتعرفت فيها على شاب عارف لطيف مستقيم على دين وخلقٌ..
رأيتُ فيه المواظِبَ الحريصَ على احترام وقت الدوام، وبذل الوسع، وحفظ السِّر، وإبداء الرأي بأمانة وصدق وتجرد، وتقديم خدمات المرفق للمستحقين بنزاهة وعدل..
عشتُ وإياهُ أوقات عمل طويلة يتخللها التعب والنصب ومنغصات أخرى كثيرة يظل خلالها تقي الله على تواضعه واحترامه واستعداده..
وأشْهَدُ له ـ واللهُ على ما أقول شهيد ـ بالاستقامة والنزاهة واللطافة والأمانة وصدق اللسان وعفته، وإقامة الصلاة..
وهو إلى ذلك جامع لمعارف شتى، على تواضع وخمول، فهو قرآني متقن بعدة قراءات، مع مؤهلات علمية محظرية رصينة، وشهادات عصرية بتقديرات جيدة، من بينها شهادة من المدرسة الوطنية للقضاء في فرنسا، وتَدْخُلُ فيه ولا تكاد تعرف شيئا من ذلك..
وحسبك أنه ـ مع طول المدة وكثرة الأحاديث البينية، ومعرفتي بإجازاته لم يستطردها في حديث إلا أياما قبل تفرقنا وظِيفِيًّا، حين لاطفته في إيحاءٍ بأني أجزته فيما أعرف ويمكنه “الجُلوس”..
ثُمّ ما عساي أن أقول وقد أسرع الموت بهذا الفتى في أوج العطاء والحاجة إليه..
كيف أكتب، ومن أين لِيَّ الترسلُ، والحالُ كحال ابن الأحنف:
أَخُطُّ وَأَمحو ما خَطَطتُ بِعَبرَةٍ :: تَسُحُّ عَلى القرطاس سَحَّ غروب..
رحيل الفتى القاضي تقي الله: رزء كبير، وفاجعة مهولة، يَغَصُّ بها كل من عرفه، وهي بقطاع العدل ثلمة كبيرة، ونقص من أطرافه..
وكنتُ حسبتُ هذا الموت وقد تفشى، وأسرع بالخِيّار جمّدَ مآقينا ومشاعرنا حتى نُعيّ إليّ تقي الله رحمه الله، فَلَـ:
نِعمَ الفَتى فجعَت بِه إِخوانَه :: يَومَ البَقيعِ حَوادِثُ الأَيّامِ..
سَهلُ الفَناءِ إِذا حَلَلتَ بِبابِه :: طَلقُ اليَدَينِ مُؤَدَّبُ الخُدّامِ.
وَإِذا رَأَيتَ شَقيقَهُ وَصَديقَهُ ::
لَم تَدرِ أَيهما ذَوو الأَرحامِ.. كما قال المتقدم..
اللهم إن تقي الله ولد الشيخ محمد فاضل في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وأرحمه إنك أنت الغفور الرحيم، وأفرغ على أسرته وأهل بيته وأحبته صبرا، واربط على قلوبهم..
إنا لله وإنا إليه راجعون..

القاضى أحمد المصطفى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى