ثلاث ملاحظات حول مقال “هل ستشهد البلاد انقلابا قضائيا هذه المرة؟”
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
يبدو أن الجدل “القانوني” الذي أثاره النقيب إبراهيم ولد أبتي حول “عدم إمكانية” قبول المجلس الدستوري لطعن دفاع رئيس الجمهورية السابق بعدم دستورية المادة 2 من قانون مكافحة الفساد “لأن الرئيس ليس فوق القانون، ويجب أن يحاكم” يتجه إلى الاتساع.. لأن ذلك الطعن أصبح الحدث الأبرز في الساحة الموريتانية الراكدة!
فبالإضافة إلى مقال نشره في “القدس العربي” السيد عبد الله مولود جَارَى فيه أقوال من يدعون أنهم طرف مدني في الملف، المخالفة لصريح المادة 93 من الدستور؛ ولا يدعمها دليل من القانون أو الوقائع! ها هو ذا مقال آخر ينشر في الموضوع تحت العنوان المنوه عنه فوق!
ورغم اتسام هذا المقال – كغيره- بسِمات فكر المرحلة؛ حيث تكاد تنعدم روح تغليب المصلحة الوطنية على غيرها، ويغيب كذلك الحز عن دراية في مفصل قانوني.. فإننا نجدنا مضطرين لتقديم بعض الملاحظات حول هذا المقال، لعل وعسى!
1. يتساءل الكاتب في عنوان مقاله “هل ستشهد البلاد انقلابا قضائيا هذه المرة؟” ونعتقد أنه كان من الأحرى بمن لديه أدنى إلمام بهذا الملف الذي ملأ موريتانيا وشغل أهلها خمسا عجافا، وناهزت أوراقه عشرين ألف (20000) صفحة، أن يطرح السؤال بصيغة صحيحة؛ وهي: “هل سينجح المجلس الدستوري في إفشال الانقلاب القضائي على الدستور؟” ذلك أن القضية برمتها هي انقلاب قضائي تم بقيادة السلطة التنفيذية على نص دستوري واضح تم “تأويله” بالباطل من غير مختص، ووأده في ظل تدليس وتزوير صارخ للوقائع، ولي لأعناق النصوص الإجرائية الجنائية بغية الإضرار المبيت لخصم سياسي لم يرتكب فعلا مجرما ويحصنه الدستور الذي هو أسمى قانون في البلاد! ويتلخص الأمر بصورة جد مخلة في: أن لجنة التحقيق البرلمانية غير الشرعية لم تتهم الرئيس السابق أصلا، ولا تستطيع أن تتهمه. وقد صرح بذلك نائب رئيسها للأخبار بتاريخ 1 فبراير 2020 فقال: “عندما ينظر الإعلام إلى التقديم الذي قدم به النواب عملهم يرى أنهم لم يتكلموا عن العشرية، ولا عن النظام، ولا عن الرئيس… فحسب الدستور لا تمكن متابعته إلا في حالة الخيانة العظمى”. ولم تطلب النيابة في تكليفها المكتوب بتاريخ 06 /8/ 2020 من ضابط الشرطة القضائية مدير مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية إجراء يتعلق به؛ بل طلبت “إجراء بحث ابتدائي حول الوقائع الواردة في تقارير اللجنة البرلمانية” فقام الضابط في اليوم الموالي بفتح محضر حول “ممتلكات محمد ولد عبد العزيز وأفراد أسرته ومحيطه”! وجارته النيابة! ومن يومها إلى الآن صدر عن القضاء العادي بجميع مستوياته ما يزيد عن 120 أمرا وقرارا تتمادى كلها في ظلم الرئيس السابق وانتهاك الدستور وخرق القوانين في حقه دون استثناء! فهل كان لديكم – أخي الكاتب- علم بهذه الحقائق الناصعة الدامغة؟ وإذا لم يكن لديكم بها علم من قبلُ فما مدى تأثيرها في آرائكم حول هذا الملف المختلق من ألفه إلى يائه؟!
2. ويذهب المقال إلى “أن القضاء العادي قد فسر المادة [93] على نحوٍ جعل من محاكمة ولد عبد العزيز أمرا طبيعيا على أساس أن التهم الموجهة إليه غير قابلة للانضواء تحت سقف تلك المادة؛ لتعلق تلك التهم بمجالات خارجة عن اختصاص الرئيس الدستورية. وحقق بذلك للنظام ما كان يصبو إليه” وهذا قول يحتاج إلى بعض التمحيص لعدة أسباب من بينها:
– أن “القضاء العادي” لا سلطان له إطلاقا على تفسير الدستور؛ وخاصة القضاء الجنائي. ذلك أولا، لأن النص الدستوري لا يفسره إلا القضاء الدستوري حصرا، وثانيا، لأن النص الجنائي نص ظاهري يتم تطبيقه إذا كان واضحا، أما إذا كان غامضا فلا يفسر إلا لصالح المتهم، صيانة لمبدأ قرينة البراءة التي لا تنتهك إلا بمحقق! وبذلك يكون “القول بأن محاكمة ولد عبد العزيز من طرف القضاء العادي طبيعية” أمرا ما يزال ينقصه الدليل!
– أن القول إن “التهم الموجهة إليه (الرئيس السابق) غير قابلة للانضواء تحت سقف تلك المادة؛ لتعلق تلك التهم بمجالات خارجة عن اختصاص الرئيس الدستورية” هو كلام إنشائي لا يستند إلى دليل من المادة 93 ولم يقل به القضاء في حكمه؛ بل هو ذريعة تذرع بها أصحاب النقيب في تبرير ما يقومون به. فأعيدوا قراءة المادة من جهة، وتأكدوا – من جهة أخرى- أن تلك التهم المزعومة لم يقم عليها أدنى دليل حتى يمكن تصور انضوائها من عدمه تحت سقف تلك المادة 93.
– صحيح أن النظام بتلك المحاكمة الصورية حقق ما كان يصبو إليه. ولكنه حققه خارج الشرعية والقانون. أي حققه بالباطل! {… وما يبدئ الباطل وما يعيد}.
3. وأخيرا.. فإن ما ورد في المقال من أن “من شأن تأويل المجلس الدستوري اليوم لمضمون تلك المادة على نحو مغاير (لتأويل القضاء الذي لا يملك حق التأويل) أن يجعل منها مادة شاملة في حماية الرئيس (أيّ رئيس) من أي مساءلة، ومن شأن ذلك الموقف أن يمثل ضمانة استثنائية للرئيس الحالي من أي إمكانية للمساءلة في المستقبل”. وأنه سيكون هو الرابح الوحيد منها، لأسباب ذكرها المقال لا مجال لسردها هنا الآن، هو أمر صحيح تماما. وقد أعلنته هيئة الدفاع على رؤوس الأشهاد في تصريحها المهيب أمام المجلس الدستوري، فقالت: “ونحن في هيئة الدفاع لم نأت إلى المجلس الدستوري اليوم مدافعين عن موكلنا وحده؛ بل جئنا مدافعين كذلك عن الدستور، ودولة المؤسسات وعن جميع رؤساء موريتانيا السابقين واللاحقين…”. وهذا موقف ثابت لدى هيئة الدفاع، ينبع من عقيدتها القانونية المتمثلة في التشبث بالحق والوطن. لكن توجد في البلاد – مع الأسف- قوى تأزيمية أخرى لها مفاهيم ومواقف أخرى! بحيث لا يهمها الحق ولا القانون، وتضغط بما أوتيت من قوة على رئيس الجمهورية والمجلس الدستوري والقضاء والحكومة من أجل “فوضى خلاقة” لا يحكمها دستور ولا قانون ولا أخلاق ولا دين، تتمكن من خلالها من نسف غيرها وإحكام قبضتها على العباد والبلاد.
تبقى مسألة “فلسفة القانون والأهداف الأصلية من وضع الدساتير أصلا، وتنافيها مع مثل تلك الحصانة المطلقة التي ستعني بالضرورة إقامة سلطة مطلقة”… فلعل ذلك كله تخرصات وافتئات على الدستور والقانون والدولة! نحن لسنا مشرعين نسن ونلغي، ولا فضوليين نبحث ما ينبغي أن يكون! بل قانونيين نتكلم عما هو كائن في دستور موريتانيا وقوانينها! وقد جاء في المادة 4 من الدستور ما يلي: “القانون هو التعبير الأعلى عن إرادة الشعب، ويجب أن يخضع له الجميع”. فهل المادة 93 من دستور موريتانيا أم لا؟! وهل ما يزال لموريتانيا دستور؟!
هنا مربط الفرس!