الموظف!

الديماني ولد محمد يحي

بعد ثلاثة عقود قضاها في الغرب، عاد الشيخ، أخيرا إلى أرض الوطن، حاملا معه شهادات عليا في التسيير وسنوات خبرة من مؤسسات مرموقة في مجال تخصصه ومشبعا بثقافة مدنية راقية، تبدو جلية في عاداته وسلوكه وعلاقته بالآخرين (بعض العامة يتهمه بالانزوائية).
عاد الشيخ بعد الطلب الذي وجه إليه من طرف السلطات المنتخبة حديثا، للمساهمة في الإصلاح الذي تنوي إرساءه في البلاد!
لم يعرف عن الشاب العائد توا من الغرب أي انتماء سياسي أو إيديولوجي، وهي ميزة رشحته بقوة لتولي تسيير أحد أهم القطاعات في الدولة!
علاقات الشيخ في الوطن محدودة إلى أبعد الحدود؛ حتى في محيطه الاجتماعي الضيق!
استلم الشيخ رسالة التكليف، وأعد برنامجا إصلاحيا واضح المعالم، يجمع بين الطموح والواقعية، تمت الموافقة عليه بسرعة ووضعت تحت تصرفه الموارد المالية اللازمة للتنفيذ.
شعر الشاب بسعادة لا توصف، وهو يرى طموحه لوطنه في طريقه للتحقق .. كل الصعاب التي يمكن أن تحول دون نجاحه في المهمة تم تذليلها؛ فقد عززت خبراته ووضوح رؤيته بالصلاحيات الواسعة والموارد المالية الكافية!
أصر الشيخ على رفض العديد من الهدايا الثمينة التي قدمت له بمناسبة التعيين؛ حتى لا تكون سببا في التأثير على عمله … لم يقبل إلا القليل من تلك الهدايا، وبعد الكثير من إلحاح أصحابها!
زاد من سعادته الراتب المريح المخصص له؛ فهو يكفي لجميع حاجياته المعهودة دون اللجوء للاقتراض!
(لا أعرف كيف يلجأ من له مثل هذا الراتب إلى سرقة المال العام) هكذا حدث نفسه بعد اطلاعه على الراتب المخصص له أول مرة!
أسرة الشيخ تسكن في أحد الأحياء الشعبية … أقل من ربع الراتب الجديد يغطي جميع تكاليفها الشهرية، بما في ذلك كراء المنزل الذي تقيم فيه!
في بعض الأحيان يطلب أحد الأقارب أو الأصدقاء من الشيخ مساعدة في نوائب الدهر، طلبات لا تمثل الاستجابة لها شئيا بالنسبة لراتبه الكبير.
عائشة زوجة الشيخ شابة “خلوقة” لها علاقات واسعة، قلما يأتي يوم إلا ولها حاجة في بعض المصاريف.. لمساعدة صديقات أو قريبات أو لتقديم هدايا لهن في بعض المناسبات!
الشيخ، رغم ما يقال عنه، كريم وراتبه يسمح بذلك (أو هكذا تصور في البداية).
بعد شهر من العمل بدأت العائلة تتضايق من السكن في هذا الحي، الأطفال يتعرضون للمضايقات والضرب المبرح أحيانا، الجيران يتسورون المنزل ويضعون نفاياتهم داخله، هكذا كانت عائشة تردد على مسامع زوجها كل ليلة!
أمام إلحاح عائشة وهروبا من هذا الوضع الصعب، قرر الرحيل إلى الحي الراقي ..
تضاعف الكراء عدة مرات على الشيخ دفعة واحدة.. المستوى المادي للجيران الجدد ونوعية مقتنياتهم تفرض صرفا إضافيا على الأثاث والأواني…
حتى لعب الأطفال أصبح يتطلب صرفا مختلفا عما كان عليه الحال..
شيئا فشيئا لم يعد راتب” الشيخ” الكبير يكفي لمصروفات الأسرة.. ومما زاد الأمر تعقيدا أن عائشة نصحها الطبيب بالمتابعة مع إحدى العيادات الخاصة في الخارج.. !
وضعية أرغمت الشاب المتحضر على النزول من برجه العاجي إلى رغبة موسى في التعامل..
موسى مورد كبير يملك المؤسسة المعنية بتنفيذ الأشغال في أهم مشروع من مشاريع قطاع الشيخ…
اتفق الشيخ أخيرا مع موسى على حل وسط ينقص بموجبه الأخير نسبة إحدى المواد مقابل مبلغ من المال يساعد الأول على تلبية نفقاته المتزايدة!
فكرة أقنعته ووجد فيها حلا مناسبا لاهتماماته المتناقضة ومواءمة بين خدمة الوطن وخدمة الأسرة؛ لذلك لم يجد المورد كبير عناء في إقناعه هذه المرة باستبدال مادة غالية الثمن في المشروع الجديد بأخرى رخيصة، مقابل مبالغ مالية معتبرة، خاصة بعد أن طلبت منه مجموعته القبلية(انطلاقا من حجم راتبه) مساهمة كبيرة في تمويل الانتخابات المحلية.
مع الوقت وجد الشاب نفسه في معمعان ما كان ينتقد..!
أموال ضخمة صرفت في غير حق ومشاريع كثيرة متعطلة وأخرى مهترئة وديون متراكمة وراتب” زهيد” بالكاد يفي بمخصصات عمال المنزل ومستلزمات الحفاظ على ديكوره!
حكاية من وحي الخيال تروي موقف المجتمع الحقيقي من الفساد المالي، حسب رأيي!
فما رأيكم أنتم؟
حفظ الله بلادنا من كل مكروه وزادها رفعة وأمنا ونماء
الديماني ولد محمد يحي
إبريل 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى