ثلاثة مواويل لحركة 16 مارس المجيدة
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
1. الإطار التاريخي لحركة 16 مارس
كانت موريتانيا عشية الذكرى الخامسة عشرة لاستقلالها في نوفمبر 1975 تجتاز بنجاح منعطفا فارقا في تاريخها الحديث حين أعطت استقلالها الوطني مضمونا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعمرانيا تبلورت خطوطه العريضة بجلاء إبان مهرجان الشباب العظيم في أغسطس سنة 1974، فقامت بمراجعة اتفاقيات التبعية المذلة لفرنسا، وخرجت من منطقة الفرنك وضربت عملتها الوطنية (الأوقية) وأممت صناعة استخراج المعادن والبنوكَ، ودعمت المواد الأساسية (سونمكس) والأدوية (فارماريم) ورعت الصناعة (مصنعي السكر وتكرير النفط) والزراعة (سهل امبوريي) ..الخ.
وتصالحت مع شبابها وشعبها فأعلنت العفو العام عن سجناء ومطلوبي الحركة الوطنية الديمقراطية وسوت أوضاعهم، ووسعت الحريات، وأجرت بعض الإصلاحات الاجتماعية والهيكلية الضرورية كتكريس عمومية التعليم والصحة، وتوزيع القطع الأرضية على فقراء مدن الصفيح، والشروع في بناء طريق الأمل التي وحدت البلاد من نواكشوط إلى النعمة وميناء نواكشوط الدولي، وافتتاح معرض وطني وحديقة حيوانات، وإصدار ميثاق وطني تقدمي يلغي استغلال الإنسان للإنسان.
لقد كان المستقبل يومئذ وضاء وواعدا، والحماس الوطني منقطع النظير. فأخيرا آتت تضحيات الشباب الموريتاني الرائع أكلها، وتبوأ الوطن الموريتاني مكانة متميزة بين الأمم، رغم شح موارد الدولة وضعف إمكانياتها وانعدام البنى التحتية الموروثة عن الاستعمار فيها. وكانت “ريشة الفن” ترصد وترسم لوحة هذه الملحمة:
هـــللي مــــوريتاني ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتـــلالي
هــــللي يا بــلاد مــا نـــحن إلا ** قطرة من معينك السلـــــسال
وابشري صفــــقي لوثبة نـــبع ** ظل يسقي مواكب الأجــــــيال
حاول الغرب حبسه ذات يـــوم ** عن مجاريه عبر هذي الرمال
فانبرى يمضغ السدود ويجري ** لا يبالي بشأنها لا يـــــــــبالي
بيد أن قوى داخلية وخارجية لا تريد الخير لموريتانيا، وتنكر إشعاع نهضتها الرائدة لما تشكله من خطر على امتيازات تلك القوى، ظلت تتربص بالوطن الدوائر وتتوثب للانقضاض عليه واجتثاثه من أصوله. وقد تمثلت تلك القوى أساسا في المحافظين المتعنتين من الطبقة السياسية الحاكمة المرتبطين ارتباطا وثيقا بالاستعمار؛ والذين نظموا صفوفهم في حزب سياسي سري يدعى “حزب العدالة الموريتاني”. هذا في الداخل. وفي الخارج وقفت الدوائر الاستعمارية الغربية في مقدمة المعادين حرصا منها على مصالحها الاستعمارية ولما يمثله النموذج الموريتاني الآبق من خطر على النظام الاستعماري الجديد في إفريقيا والعالم الثالث. بينما يختصم الجيران من كل حدب وصوب و”يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم”.
وفي تلك الأجواء المشحونة بالعداء للإصلاحات الوطنية والوحدة الوطنية في موريتانيا، فجر المغرب في 16 أكتوبر من نفس السنة قنبلة “المسيرة الخضراء” مستغلا التحولات الوشيكة في إسبانيا مع أفول شمس فرانكو، فانهد استقرار المنطقة، وبدأت نذر الحرب تلوح في الأفق.
وفي 14 نوفمبر 1975 تم توقيع اتفاقيات مدريد الثلاثية التي قسمت “الصحراء” بين المغرب وموريتانيا، وشكلت ذريعة لحرب عبثية بين الأشقاء. تلك الحرب التي ما تزال مستعرة إلى يومنا هذا تقسم المنطقة وتقف عائقا في وجه وحدة شعوبها وتهدر طاقاتها في صناعة الحرب والإرهاب بدل توجيهها نحو التنمية والبناء والسلام.
لقد كانت موريتانيا يومئذ في غنى عن دخول مغامرة غير محسوبة كالحرب؛ مغامرة لا تملك شروطها الضرورية، وتتعارض تماما مع طبيعة وعقلية أهلها مهما كانت الدوافع إليها. وإنها لعمري أحد خطأي الرئيس المختار ولد داداه – رحمه الله- الرئيسيين (دخول الحرب وعدم مواجهة الانقلاب).
لذلك فقد عارضت القوى الوطنية الدخول في تلك الحرب، وحذرت السلطة الوطنية من عواقبها المدمرة! ولكن المحافظين المتعنتين وسوسوا لها وأصروا على جر الوطن إلى الهاوية متذرعين ببعبع المطامع المغربية التقليدية في موريتانيا، وبضرورة إبعاد الحدود مع المغرب عن طريق الحديد: شريان الاقتصاد الموريتاني. ورغم ما يظهر في هذا المنطق من وجاهة فإن بعض القائلين به كانوا يطمعون في الاستيلاء على السلطة وتصفية الاتجاه الوطني، ويرون في الحرب وسيلة مثلى لبلوغ هدفهم.
وباندلاع الحرب بدأت أوضاع موريتانيا تسوء يوما بعد يوم.. خاصة بعد تبني بوليزاريو وحلفائها سياسة “الحلقة الضعيفة” والأرض المحروقة إزاء موريتانيا التي ركزوا عليها كلها (شرقها وغربها وجنوبها وشمالها) دون غيرها، إمعانا منهم في الانتقام منها والإضرار بها، وسعيا منهم وراء تخريبها وإركاعها. الشيء الذي أفقدهم التأييد والتعاطف الذي كانوا يتمتعون به في البداية في موريتانيا تربطهم بها شتى الأواصر، وأثار في نفوس الموريتانيين حتى اليوم ذكريات وأحقاد أزمنة السيبة والنهب.
.. ثم كان انقلاب العاشر يوليو 1978 بتحريض ودعم ومساندة من بوليزاريو وحلفائها؛ فبدأ انهيار الدولة الموريتانية على مختلف الأصعدة.
لم يستطع الانقلابيون الاحتفاظ بغنيمتهم لاختلاف أهوائهم وانعدام مشروع سياسي لديهم وجشع بعضهم، فصفى بعضهم بعضا خلال أشهر من الانقلاب، وبدأت فصول الردة إلى حمى العشيرة والجهة والإمارة، والسطو على المال العام، تترى. وجاء انهيار محاولة إقامة مجلس استشاري يمثل مختلف أنحاء البلاد ويدعم سلطة الانقلاب ليكرس عزلة الانقلابيين ويفاقم أزمة البلاد. وعندها تحرك قادة في الجيش يتشبثون بالشرعية ولم يشاركوا في انقلاب العاشر يوليو أصلا، فقاموا بالتخطيط لانقلاب 6 ابريل وقادوه بنجاح؛ آخذين على عواتقهم إصلاح ما أفسده العاشر يوليو. ولكن سلطة 6 إبريل التي لا تتناسب طموحاتها مع قوتها وتنظيمها؛ والتي تتشكل أساسا من الرئيس أحمد ولد بوسيف والعقيد محمد ولد اب ولد عبد القادر وبعض حلفاء الطريق، ارتكبت نفس الخطأ الذي وقع فيه قبلها منفذو انقلاب 10 يوليو، حين سلمت قيادة الجيش لغيرها واتكأت على أرائك السلطة الوثيرة. ولذلك فما إن اختفت طائرة الرئيس المرحوم أحمد ولد بوسيف وصحبه في المحيط قبالة داكار حتى تلاشت معها سلطة السادس إبريل.
وفي 31 مايو، أي بعد ثلاثة أيام فقط من سقوط طائرة الرئيس أحمد ولد بوسيف، اغتنمت العناصر الموالية لبوليزاريو وحلفائها في اللجنة العسكرية الفرصة النادرة التي سنحت لها فاستعادت زمام المبادرة من 6 إبريل وعينت أحد أركانها رئيسا للجنة العسكرية ووزيرا أول. ومن حينها تتالى السقوط بسرعة البرق:
– توقيع اتفاقية سلام منفرد مذل مع بوليزاريو دون مقابل؛ حتى ولو كان إطلاق سراح الأسرى الموريتانيين العانين!
– الهروب من وادي الذهب وترك تضحيات الجيش والشعب سدى.
– إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر وقطعها مع المغرب والاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الصورية التي سُخِّرت في خدمتها جميعُ إمكانيات موريتانيا والقابضون على السلطة في نواكشوط!
لقد تم إذن اختطاف موريتانيا نهائيا وتكريس ارتهانها للغير دون إرادة شعبها. فكان لا بد من عمل شيء!