المديح النبوي غناء العبيد في موريتانيا
رسخت في الفضاء الموريتاني عبر الزمن تراجيديا الإنسان “المستعْبَد” الذي لا يجد من متنفس له غير السَمر في الليل، مطلقاً العنان لحنجرته في أغاني يغلب عليها مديح النبي محمد. الغناء/المديح يتيح هنا وبكل “شرعية”، إفراغ المعاناة والتنفيس عن المكبوتات، وهو محاولة للسمو والخلاص ولو لهنيهة من ظلم الواقع المذل، فتختطف لحظات التبتل في محراب السيرة استراحة بعد عناء يوم غائر، تُفرض فيه على العبد خدمة “سيده”، يرعى ويحلب الدواب ويوفر الماء والمأكل.
في المديح الذي يمارسه العبيد الموريتانيون، يظهر نبي الإسلام كملاذ. مثلا يقول: “أللا يعملني أنطوف وأنشوف أقبر محمدُو محمد خاتم لنبيَ والشكر أللا حدو حدو” أي لا أحد يستحق المديح غيره. ويقول مقطع اَخر “حوظ النابي باماروكو- حوظ النبي يا الظواكة، يَ اللي منكم لاهي إظوكو يعرف عنو من لمساكة ما كيفو حوظ ؤ لا فوقو”: لا يوجد أي حوض للسقي يضاهي حوض المصطفى، فكل الأشياء دونه. ومن الضروري التذكير بأن النمط الغنائي التقليدي في موريتانيا رسّخ ثقافة تمجيد القبائل وقادتها، فلكل قبيلة ذات شوكة فنانون تقليديون يمجدونها ويسطرون بطولاتها، وهو ما يختلف عن نهج العبيد الذين اختاروا مدح الرسول فقط.
ويحضر في المديح التذكير بيوم الحساب، وكذلك، وكثيراً قصة بلال وخصوصاً في مدائح الحرَّاطين (العبيد السابقين). يقول المقطع التالي “گال البلال ارفع لذان بصوتك لا تخافو” تذكيراً برفع الصحابي الأسود بلال بن رباح للأذان بعد أن كان عبداً، وهي إشارة لتخليص النبي للعبيد ونصرتهم والرفع من شأنهم. وتطبع المديح مسحة صوفية ترنو إلى الخلاص من الاَثام والتنعم في جنان الله. مثلا يقول المقطع “أغفر وأسمح يا مول الجود وأنا في الفردوس أنعود”. ويصاحب المديح تفاعل حركي يقوم به المداحون ومن يقاسمهم شغفهم، يعبر عن رغبة جامحة في التحليق نحو أفق الحرية والانعتاق والتخلص من الذل، ويحضر كذلك الطبل معطياً للحظة حقها من الإيقاع.
يطبع المديح كسرا للنمط الشعري الحسّاني التقليدي (الحسانية هي اللهجة المحلية لأصحاب الهوية الثقافية العربية في موريتانيا)، فلا يلتزم بالوزن ولا بالقافية ولا حتى بالمقامات الموسيقية. ويرى يسلم محمود الناشط في ميثاق الحراطين والمهتم بالتراث، أن هناك مميزات لمديح العبيد والحراطين تجعله مختلفاً: “لقد ارتبط هذا النمط الفني بالعبيد ويأتي بعدهم بمراحل كثيرة إكاون (الفنانون التقليديون)، لكنه مختلف، ففي الوقت الذي يلتزم إكاون بتسلسل المقامات في أداء المديح لا يلزم الحراطين بذلك، وأغلب الظن أن السبب أنهم لا يعرفون تلك المقامات وهي كانت سماعية غالباً ويحتاج تعلمها للكثير من المجالسة التي لم تكن متاحة لأناس جل وقتهم في الرعي وخدمة الأسياد”، ويعتقد يسلم أن “نمط المديح قريب للتبراع، وهو نوع من الإبداع الموريتاني يتكون غالباً من ثمانية تفلواتن (مقاطع)، وهو شعر شعبي تقوله السيدات على من يعشقن، ولأنهن في مجتمع محافظ كن يخفين دوماً من هي القائلة. لقد اعتمد الحراطون النمط نفسه في المديح، فأغلبه لا يُعرف له قائل. لكن الإخفاء في حالة الحراطين يصعب إيجاد مبرر واضح له لأنهم في مجتمع مسلم يحب نبيه، ولن يكون تحت طائلة المساءلة من يقول فيه شعراً. وإنما يمكن إرجاع الأمر لفقد الحرية والإحساس بالدونية وعدم الاستعداد لإعلان الإبداع”.
ويأخذ يسلم على المؤرخين الموريتانيين عدم اهتمامهم بالمديح والكتابة عنه ولو نقداً، خاصة أن فيه ما ينقد، ويقول: “لو امتلكوا رصيداً كافياً من النزاهة الأخلاقية لكتبوا عن المديح ولو من باب النقد، خصوصاً أن فيه ما يستحق الغربلة لكونه مليئاً بالأخطاء التاريخية وفساد الكثير منه من ناحية الوزن. لكن يبدو أنهم آثروا ميلهم الدائم للكتابة عن أمجاد قبائلهم المتمكنة والمالكة لهؤلاء العبيد الذين يحنّون ليوم الخلاص، ويتعلقون بنبي الإسلام كمخلص لهم، ولم يتطوع أي كان ليصحح لهم الكثير من الأغلاط التاريخية. فمثلا مقطع فاطمة بنت النبي المصطفى يقول “أوركك كد أعشر لكدة” حيث يتحدث المداحون هنا عن “أمبلحة”، أي فتاة بدينة من الريف الموريتاني، وهم لم يكن بمقدورهم أن يفكروا أن ابنة محمد عليه السلام ستكون أقل حظاً في لبلوح (التسمين) من بنت “عربيهم” (سيدهم) البدينة والتي ترمز للجمال يومها”.
الدعوات لتطوير المديح وإعادة “تأهيله” وتخليصه من الاختلالات اللفظية والأخطاء اللغوية، يرفضها المشتغلون في مجال المديح وبعض المثقفين المنتمين لشريحة الحراطين، حيث يرى هؤلاء أن تلك الاختلالات اللفظية والأخطاء والآلات الموسيقية والهنات العروضية التي تطبع مديح العبيد هي التي تعبر عن الخصائص الاجتماعية والتاريخية لطبقتهم.
واليوم، لا يزال المديح مصدراً لتذكر تراجيديا “العبد المداح” المؤلمة. فكلما صعد مداح من شريحة “العبيد” أو “الحرّاطين”، تسرح الذاكرة إلى ماضي أهله وأجداده وقصص معاناتهم في العبودية، وهو ما جعل بعض النخب تعتبر المديح مرتبطاً بوثاق وثيق بمعاناة العبيد والحراطين. وقد بدأت في السنوات الأخيرة عدة مبادرات لدعم هذا النمط التراثي، فأطلقت مسابقات تلفزيونية خاصة به، يتبارى فيها المداحون على طريقة مسابقات الهواة في العالم العربي، وكان أبرزها برنامج “المداح” الذي حظي باهتمام ومتابعة الجمهور الموريتاني، وقد بدأ قبل عام مهرجان “ليالي المدح”، الذي ينظمه “مركز ترانيم للفنون الشعبية”. فحسب المنظمين، أتى المهرجان كنوع من إحياء بعض تراث “العبيد” و “الأرقاء السابقين”. وقد نظمت نسخة هذا العام في شهر رمضان، وتميزت بحضور جماهيري كبير بالإضافة إلى حضور الكثير من الشخصيات الثقافية الموريتانية وكذلك الوفود الديبلوماسية. وتخلله تكريم العديد من المداحين الموريتانيين الذين أنعشوا ليالي المهرجان الثلاث. لكن المنظمين يشكون من عدم الاحتضان الرسمي وحتى الخاص للمهرجان. وشجون المديح والمداحة لا تقتصر على ما يقدمون في فنهم ولا على معاناة أهلهم وأجدادهم وشريحتهم، فهم ما زالوا يشكون من التهميش.
احمد جدو لصحيفة السفير العربي