يا حزيران أنت أصغر منا… في ذكرى نكسة حزيران
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
عندما هُزم العرب في حزيران سنة 1967 واحتل الصهاينة ما بقي من فلسطين وبيت المقدس، والجولان، وسيناء؛ وصار الطريق سالكا أمامهم إلى قاهرة المعز – قلعة العرب والمسلمين والمسيحيين.. كان حزيران أكبر من العرب! ولذلك وثق شاعرهم تلك اللحظة بكل ما في الهزيمة من مرارة وحسرة بقوله:
يا حزيران أنت أكبر منا ** وأب أنت ما له أبناء!
ولكن الأمم العظيمة لا تركع لغير الله ولا تموت! وأمتنا من ذلك الطراز النادر! فهبت من أول لحظات الهزيمة تقاوم، وتُعِدُّ العدة للثأر والتحرير.. فخاضت حرب استنزاف شرسة ضد العدو الجاثم على صدر القناة، وانهمكت في صناعة أسباب البقاء والنصر لبنة، لبنة!
لقد كان حزيران 1967 تحديا حضاريا غربيا يفرض بقاءُ العرب والمسلمين والمسيحيين على وجه الأرض مقارعتَه ورفْعَه وهزيمته.
كنا يومئذ صغارا!
كنا أناسا طيبيـن ** لكننا كنا صغــار
لا نستفيد من التجا ** رب والعلوم والابتكار
كنا ثوارا عاجزين ** عن التأسي بالثـوار
ومع ذلك، ورغمه، فقد نفرنا خفافا وثقالا وقاتلنا وصبرنا وتعلمنا وأفضنا من نصر إلى نصر، رغم تعرج ووعورة الطريق:
حرب الاستنزاف، معركة الكرامة، حرب أكتوبر، حرب تحرير جنوب لبنان، حرب تموز، حروب غزة، حروب العراق، حرب الدفاع عن سوريا، الانتفاضات.. إلخ.
وتمضي مواكب الشهداء تترى على الدرب مهرا للعزة والكرامة والحرية: عبد المنعم رياض، جمال عبد الناصر، كمال جنبلاط، موسى الصدر، عباس الموسوي، حافظ الأسد، خليل الوزير أبو جهاد، ياسر عرفات، أحمد ياسين عبد العزيز الرنتيسي، صدام حسين، عماد مغنية، معمر القذافي، محمد سعيد البوطي، قاسم سليماني، أبو مهدي المهندس… والقائمة طويلة، ومتنوعة جدا!
… وجاء طوفان الأقصى في فلسطين فجر 7 أكتوبر 2023 علامة فارقة في مؤشر انبعاث الأمة، فوضع حدا نهائيا لتحدي حزيران 1967: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وآمنوا بنصره، فقاتلوا، وقتلوا، وانتصروا.. وشعب حر أبي قوي شجاع صابر مؤمن بالله ومتشبث بحقه وبأرضه وعرضه حتى آخر فرد منه؛ فإما النصر أو الشهادة (نحو مائة وثلاثين ألف شهيد وجريح ومفقود.. وتداعت جبهات الدعم تباعا براكين نار ودمار تصلي العدو من كل حدب وصوب: الضفة الغربية، لبنان، العراق، سوريا، اليمن، إيران، تركيا.. وليست مصر وقطر والأردن مما يجري ببعيد!
إن عمرو بن العاص يزحف للشر ** ق وللغرب يزحف المأمون.
شمــس غرناطـة أطلــت علينـــــــا ** من جديد وزغردت ميسلون.
صـدق السيـف حاكمــا وحكيمـــــــا ** وحده السيف – يا بلادي- اليقين.
… وانتفضت جبهة أحرار العالم بقيادة جنوب إفريقيا نلسون مانديلا (دول وشعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأوروبا وطلاب الجامعات والأحرار في أمريكا).
والآن… أولم ينعقد إجماع العالم على هزيمة إسرائيل وأمريكا والغرب كله في فلسطين، وفي غزة تحديدا.. فلقد قهر جيش إسرائيل الذي كان لا يقهر (هرب جنوده من الميدان واستسلموا وبكوا وتوسلوا وركعوا وانتحروا) وانهارت أسطورتا “قوة ردع إسرائيل” و”ديمقراطية إسرائيل”.. فلم يعد أحد في الأرض يخشاها أو يحترمها بعدما مرغت هيبة الميركافا وكولاني والقبة الحديدية الأمريكية في الوحل، وانهار اقتصادها بسرعة البرق، وهرب سكانها وتمزقت جبهتها الداخلية إربا إربا.. وطردت سفاراتها في العديد من دول العالم، وأدرج اسمها في “قائمة العار” من طرف الأمم المتحدة، وأمسكت تلابيبها محكمتا العدل والجنائية الدوليتان!
وكل ذلك بفعل فصائل مقاومة قليلة العدد والعدة في شريط غزة الصغير. فما بالكم إذا تحركت الأمة جمعاء؟ ولسوف تتحرك عاجلا أو آجلا لبتر واجتثاث سرطان إسرائيل، بغض النظر عن مآلات هذه الجولة الاختبارية التي تجري الآن في غزة! وسيكون تحركها صاعقا ورهيبا ومدمرا، وفي محيط دولي مغاير أكثر عدالة وأشد مقتا لإسرائيل وللغرب الظالم المنافق!
وجدنا أخيرا.. حدود فَمَيْنا
عثرنا على لغة للحوار
وكان حزيران يجلس فوق يدينا
ويحبسنا في كهوف الغبار
أحبك أيتها الغالية
أحبك مرفوعة الرأس مثل قباب دمشق،
ومثل مآذن مصر..
فهل تسمحين بتقبيل جبهتك العالية؟
وهل تسمحين بتغيير ثوبك؟
إن حزيران مات..
وإني بشوق لرؤية أثوابك الزاهية.
(نزار قباني، ملاحظات في زمن الحب والحرب، ص 445 أ. ك المجلد 3).