حصار مالي: المسمار الأخير في نعش الوجود الفرنسي

د.محمد ولد الراظي

ليس الأفارقة من يحاصرون مالي إذ لا مصلحة لأحدهم يبتغيها ولا تخطئ بصيرة أقلهم بصيرة ما قد يجنيه هذا الحصار من ويلات تمس الأنظمة نفسها وتطال استقرار الدول و الشعوب وليس الإنقلاب هناك هو السبب إذ انقلب عسكر مالي علي انقلاب سبقهم في حين انقلبت فرنسا بعسكر آخر علي نظام منتخب في غينيا المجاورة ولم ينبس أحدهم ببنت شفة……إنما هي محاولات – قد تكون يائسة- من هذا البلد الإستعماري سيئ الصيت وسيئ الأثر للإبقاء علي نفوذ له بالمنطقة….وقد تكون جاءت في الوقت بدل الضائع.

كانت غينيا الدولة الوحيدة التي قالت لا لفرنسا ودفعت الثمن غاليا حصارا وتهميشا ولكن الشعب الغيني ظل و ما يزال يتنفس عبق الحرية ويزداد مؤشر كبريائه كلما ضاقت عليه الدنيا حصارا وتجويعا منذ 58…..

وصف كثيرون يومها الشاب الثائر (الماندينغي من أبيه وحفيد المامي توري من أمه) باليساري المتهور والحالم حد الغباء وقال قوم كثر من رسل “واقعية الخنوع” إنه أضاع فرصة كبيرة علي نفسه وشعبه وقال التاريخ لاحقا إن الذين كانوا في الصف الآخر لم تكن أنظمتهم أكثر استقرارا ولم تكن بلدانهم أكثر ازدهارا بل شهدت تلك الدول مستويات من النهب غير مسبوقة وصراعات عرقية وقومية اتلفت الحرث والنسل ومازال المحظوظ منها يعيش هدوءا مغشوشا واستقرارا هشا ….صحيح أن البلد لم يستهد بعد لطريق التطور والتقدم مثله كمثل الكثير من دول القارة الذين كانوا ضحية لبلوي الإستعمار الفرنسي…..لم يسلم إلا ما كان استثناء لتأكيد قاعدة عامة…..ستنبعث روح التمرد الغيني لاحقا مرات ومرات وسيلاحقها في كل مرة جبروت المحتل وسطوته في سفر الصراع الطويل بين إرادة البقاء الحر ونزعة الإستعمار الغاشم وقد تتغلب عليها كما هو اليوم لكنها فشلت وستفشل في أن تخمد جذوة تلك الروح مطلقا…

أما مالي فكانت أول دولة تخرج من فضاء الفرنك الإفريقي عام 1962 ولم تعد له إلا في عام 1984 نفس السنة التي توفي فيها شيخو توري ( أ مجرد صدفة أم لعلاقة سببية !!)….كان ذلك بفعل رجل يساري هو الآخر موديبو كيتا الثائر المتمرد الحالم بافريقيا موحدة ……..ينتمي هو الآخر لقبائل المالينكي التي ينحدر منها رفيقه الغيني شيخو توري……..ستنقلب عليه فرنسا بأعوانها المحليين عام 1968 وسيخلد بالسجن أعمي لا يكلم أحدا حتي وفاته 77 نكالا لما ارتكب من جرم الخروج من بيت طاعة الإستعماري…..

تكاد الطبعتان الغينية والمالية تتناسخان من بعضهما البعض مع بعض الفوارق في الزمن وفي الحدة وفي العناوين المميزة والتي تكون دوما في قالب ردات فعل ولكنه نفس النفَس الثوري يعبر عن نفسه ويتسع ويزداد قوة وانتشارا ولم تنجح جيوش برخان ولا منظمات الساحل ولا مجموعاته ولا الحرب علي الإرهاب ولا العناوين المخدرة المتفرعة عنها في القضاء عليه….. فما هي الخلفية المشتركة لهذا النفَس الثوري وهذا الجموح الهادر نحو الحرية والإنعتاق في هذين البلدين ؟ ولماذا يكون انقلاب غينيا مقبولا وانقلاب مالي مرفوضا ؟ ألئن الأول انقلاب فرنسي علي نظام غيني متمرد غير مرغوب فيه من باريس والثاني انقلاب مالي علي وجود فرنسا وسيطرتها ونفوذها ؟

ولماذا لا يساند المنقلِب بفرنسا في غينيا موقف فرنسا وذراعها الإقليمية ضد المنقلِب علي فرنسا في مالي ؟

ولماذا تحريك ملف الحصار فقط بعد أن وصلت طلائع القوات الروسية للمنطقة ؟ وهل تكون فرنسا بصدد تأزيم الوضع الداخلي المالي لتصدير المشاكل لدول الجوار وخاصة موريتانيا ؟ وهل أن فرنسا الراعية للكثير ممن تسميهم ب”الجهاديين” تحاول تصدير هؤلاء المقاتلين تحت ستار اللجوء إلي موريتانيا فتخلق مبررات تحويل ما تبقي من قوات برخان من مالي إلي موريتانيا لمواجهة هؤلاء وتسهيل مواجهة القوات الروسية والتشويش علي عملها ؟ وهل يكون هذا الحصار آخر مسمار في نعش الوجود الفرنسي بالمنطقة ؟ وما هو الموقف المنتظر من موريتانيا ؟

تتشابه مالي وغينيا كثيرا في تركيبتهما السكانية حيث يمثل الفلان في غينيا أربعين في المائة من السكان و أربعة عشر في المائة في مالي ويشكل الماندينغ بمكونهم المالينكي ثلاثين في المائة من سكان غينيا في حين يشكلون بمكونيهم البنباري والمالينكي أربعين في المائة في مالي…….الفلان والماندينغ من أكثر الشعوب الإفريقية مناهضة للإستعمار وأقواها شكيمة…..والأفارقة عموما بهم قدر كبير من الأنفة والشموخ ولعل موقفهم من كسر الحصار المفروض علي ليبيا أكبر دليل علي ذلك……

هذا التشابه الكبير قد يفسر الماضي المشترك للشعبين في رفض الإستعمار والتبعية ويفسر أيضا إحجام حكام غينيا الجدد عن مساندة قرارات ستلحق ضررا كبيرا بالمواطنين الماليين لأن موقف كهذا قد يسبب غليانا شعبيا كبيرا داخل البلاد انتصارا لأبناء العمومة في الجار الشمالي .

سينتج عن هذا الحصار الفرنسي في عباءة المنظمة الإقليمية ثورة شعبية كبيرة في عموم شمال غرب إفريقيا تدعمها الروابط القبلية والمجتمعية القوية والناظمة لسلوك الأفراد والجماعات في هذه البلدان……..وهذه المرة لن تكون ثورة نخب سياسية أضناها واقع التبعية السياسية واستنزاف خيرات شعوبها ولن تكون تمردا من عسكري حر ثائر وإنما ستكون ثورة شعوب بكاملها ضد الوجود الإستعماري الفرنسي الذي نهب القارة لقرون وحين ادلهمت الخطوب في وجهه قاد حملة تجويع باسم ما تبقي من الأنظمة السائرة في فلكه.

وسيؤدي ذلك حتما إلي سقوط بعض الأنظمة السائرة في فلك فرنسا ولن تقبل الشعوب ساعتها بأقل من مغادرة الجنود الفرنسيين وإغلاق قواعد فرنسا العسكرية وترك شعوب المنطقة ترسم حاضرها ومستقبلها….

موريتانيا وسيطا لا شريكا

لا يمكن لموريتانيا أن تنأي بنفسها عن الأزمة المالية بأي شكل كان نظرا لكثرة وحجم الروابط بين الدولتين والشعبين…..

يمثل الحصار الإقتصادي عادة فرصة للدول غير المعنية بتطبيقه من أجل ملء الفراغ سواء تعلق الأمر بالمنافذ البحرية والبرية أو تعلق الأمر بتبادل البضائع والخدمات……وموريتانيا ليست عضوا بالمنظمة الإقتصادية لغرب إفريقيا وتربطها بمالي حدود طويلة بآلاف الكيلومترات وتداخل سكاني كبير وقديم ومصالح مشتركة بين الشعبين لا تحكمها قواعد السياسة ولا ترسمها متغيرات العلاقات الدولية والإقليمية……هي حقائق الجغرافيا البشرية…ولكن من جهة أخري لا شك أن فرنسا الراعية للحصار مازالت تملك أوراقا تلعبها قد لا تكون موريتانيا مستعدة بعد لمواجهتها بطريقة مفتوحة مما يحتم الكثير من الكياسة والحذر.

الحصار المعلن يعني تجويع الماليين و تدفقهم بمئات الآلاف نحو موريتانيا مما يعني زيادة الطلب علي مخزونات المواد الغذائية والطبية الشحيحة أصلا وستنتج عن ذلك مشاكل تموين كبيرة وغلاء أسعار غير مسبوق وقد يتدفق مع أولئك الكثير من العناصر المسلحة مما سيزيد الأوضاع السيئة أصلا سوءا علي سوء ويعرض أمن البلاد لمخاطر جمة ومتنوعة لا يمكن التنبؤ بحجمها ولا مدياتها.

لا يمكن لميناء انواكشوط أن يعوض ما سيكون من أثر لإيقاف عمليات التبادل عبر دكار ومن مختلف الجوار المالي لعدة أسباب منها طاقة الميناء الإستيعابية ومنها طول المسافة وصعوبتها نسبيا والإكراهات الأمنية علي الحدود وداخل الأراضي المالية…..

أمام هذه التحديات وللتوفيق بين واجب الحفاظ علي حقوق الجيرة والأخوة وواجب الحفاظ علي المصلحة الوطنية ينبغي لموريتانيا أن تبقي المنافذ مفتوحة وتبقي علي انسيابية الحركة التجارية من وإلي مالي بنفس الحجم السابق للأزمة علي الأقل وتبقي علي التنسيق الأمني مع السلطات الحاكمة في مالي لتبقي وسيطا مسموعا من الطرفين قد يجعل منها لاعبا مهما في تدوير الزوايا بين مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين الكبار …..الثابت الوحيد في السياسة أنها متغيرة

اختار شيخو توري وموديبو كيتا باسم الشعبين الغيني والمالي طريق الحرية المفروشة بالأشواك والمحفوفة بمخاطر الجوع والحرمان والموت…..لقد اختار الشعبان الحرية لأن الحياة بلا حرية لا حياة والحرية أن يكون المرء سيد نفسه وسيد موارده وسيد رأيه والشعوب تموت من أجل الحياة وتجوع من أجل الحياة….وتدفع ثمن الحياة من الحياة فتكون الحياة من وراء نقاب الموت خيرا من كل حياة……..ولا ينبغي أبدا أن تكون بلادنا شريكا في خنق نفس الحرية لشعب شقيق جار حر وأبي…..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى