“الجزيرة” و”العربية” و “تسييس المنابر الدينية”

محمد ولد الراظي

اليوم تبدأ سنة مسيحية جديدة سنة اعتمدها البابا “اقريقور الثالث عشر” منذ القرن الخامس عشر وتسمت باسمه طويلا وقال بعضهم إنه يوافق يوم “الإنفحار العظيم ” وقال البعض الآخر بشيئ آخر ومع مرور الأيام أصبح هذا التقويم عالميا فاحتفل القوم به في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا قد احتفلوا أسبوعا قبله بيوم جعل منه “يوحنا الأول” ميلادا للمسيح عليه السلام …..ولأن الغلبة دوما لثقافة الغالب أصبحت السنة القريقورية سنة كونية تفرض نفسها علي الجميع علي الأقل كمعيار زمني خاصة ما كان من قبيل المراجعة وتقييم الحصيلة وتحديد محددات الفعل والمؤثرات عليه وآفاق التغير والتبدل وإمكانيات ردة الفعل وما قد يكون من فرص لصحوة ضمير ونفض لغبار التخلف وثورة علي أسباب الهزيمة المعنوية والنفسية والسياسية في لاحق السنين……
لقد كانت سنتهم الماضية بالنسبة للعرب والمسلمين امتدادا لسنوات سبقتها وتطورا عنها في حجم وتعدد عنواين الفرقة وأسباب الهزيمة ووسائل التخريب البيني…
إن أخطر ما يتهدد وجود الأمة العربية ليس عدوا خارجيا يتربص بها الدوائر هنا أو هناك بقدر ماهو انفراط وشائج التآخي و التحابب بين مكوناتها المتعددة في ألسنها و ثقافاتها و معتقادتها و التي ظلت إلي وقت قريب في انسجام تام داخل إطار المواطنة و الإنتماء الحضاري المشترك لهذه الفيسفساء المتنوعة والموحدة…… والعدو يعرف ذلك ويعمل من أجله.
كان “بن غوريون” يكرر دوما وقبله “توماس أدوارد لورنس” إن الطريق السالك و المضمون للسيطرة علي العرب هو في إذكاء الفتن بينهم وتمكين بعضهم من قتل البعض.

لماذا و كيف وصلنا إلي هذه الدرجة من التردي و سوء الحال ؟ وكيف السبيل للخروج من هذا الوحل المميت؟
قد يرجع البعض أسباب ذلك في ابتعاد المسلمين عن قيم الإسلام الحقيقية و في هذا صواب كبير كان الإمام محمد عبده سباقا للتنبيه إليه حين وصل إلي أوربا قادما من الشرق وعبر عنه بكلمته المشهورة : “وجدت بأوربا مسلمين بلا إسلام و تركت في بلادنا إسلاما بلا مسلمين”.
لكن مسلمي اليوم يملكون من وسائل الفعل السيئ ما لم يكن يملكه المسلمون أيام محمد عبده وصحبه وذلك ما قد يفسر بشاعة ما أوصلنا إليه هؤلاء المسلمون بلا إسلام.
أمران اثنان كان لهما الدور الأكبر في تفتيت الأمة بهذا الشكل الرهيب في زمننا هذا : تسييس المنابر الدينية و ثورة الإعلام المرئي العربي من خلال قناتي “الجزيرة” و “العربية”

تسييس المنابر الدينية

ينفرد المسلم في صلاته عن غيره من أصحاب الديانات الأخري بالسجود لله ومن ذلك أخذ المسجد إسمه………….والسجود هو أرقي معاني تذلل العبد وخضوعه.
وينفرد الإمام في الإسلام عن سائر نظرائه في الديانات الأخري بكونه يقود الناس فيصبح قدوة ومتبوعا في طريقة تأدية العبادة حيث يقف الجميع خلفه و في قوله وفعله مما يرتب عليه التقيد الدقيق بحدود المسؤولية الشرعية والتحفظ كثيرا وأخذ الحيطة والحذر من أي تداخل بين وضعه كإمام يركع الناس بركوعه ويسجدون بسجوده ويقفون حين يقف ويبدأون معه ومعه ينتهون وبين بعده الذاتي كشخص له ميوله ورغباته وله موقفه من شؤون الحياة قد لا يكون المنبر هو المكان الأمثل للتعبير عنها تصريحا أو إماءة.
نحن اليوم نعيش أسوأ أيام التردي العربي ويبدو أن لنا في كل يوم موعدا مع مأساة جديدة لأن مآسينا تكمن في خلل البنية العقلية للإنسان العربي في هذا الزمن الكئيب الذي جعل منه فريسة سهلة لقوة المال و الإعلام و سطوة الأنظمة الطائشة وماكينة إنتاج الخرافة و الأصنام.
لم تعد هناك ضوابط مبدئية لنميز الخطأ من الصواب في الفعل السياسي كما لم تعد توجد لدينا ضوابط فقهية للإفتاء بعيدا عن سطوة السلطان … فكلها قيم متغيرة في بورصة متقلبة تارة إلي الأعلى و تارة نحو الهاوية.
منذ فترة بدأت شبكات كثيرة مدعومة دعما ماديا سخيا بتوظيف الأئمة ومكانتهم عند الناس وتكوين دعاة و استغلال المنابر الدينية لخدمة أطراف سياسية دولا وجماعات.
بدأت الفرقة من هنا و نقلت المعركة إلي داخل كيان الأمة حيث لن يقبل أحد بوصاية أحد و كل يدعي لنفسه الصواب بل إن البعض قال بأن دم الآخر تقرب إلي الله سبحانه وتعالي!!!!
اعتلي منابر المساجد كل من هب و دب يلقي مواعظه ويستغل قدسية المكان لينصب نفسه من حزب الله و غيره ممن اتخذ الشيطان وليا ونصيرا.
يأتيك أحدهم و قد لا يفقه كثيرا من أحكام الشرع فيخبرك أنه جاء خارجا في سبيل الله لينشر الإسلام في أرض الله الواسعة و هذا لا شك جهد مبارك و قصد نبيل ….لكن الملاحظ أن الأخ خرج من بلاده و قد تكون أحوج لجهده من الجهة التي يمم وجهه نحوها كما أنك لو قدر لك أن حضرت إحدي “جلساته الجهادية” لأدركت أن وراء الأكمة ما وراءها.
فلا هو في الغالب يعي كثيرا مما يقول إنه جاء من أجله و لا هو اكتفي بالمنبر ليلقي درسه بل إنه ينزوي بفتية صغار في حلق ضيقة يخبرهم بما أخبرهم فيلتفون حوله و يرون فيه من سيقودهم إلي صلاح الدنيا و الآخرة…..من هنا تبدأ الحكاية وتبدأ معها الإمارة ….
الأمير لا يخطئ و الأمير لا يزل و طاعته واجبة لأنه علامة نحرير و رجل صالح وولي خارق و كل أوصاف الكمال التي تعطي لصاحبها قداسة فعلية و إن لم يتجرأ أحد علي البوح صراحة بذلك.
والسبب في هذا القبول الكبير أن الكثير ممن يحضر هذه الدروس الشفهية التي لا رقيب عليها هم قوم لا يقرأون وبالتالي لا يفقهون فيكونون عرضة للقبول الأعمى بخطاب الوافد من بعيد ومن المعروف أن التلقين الشفهي أسهل بكثير من التدريس خاصة إذا كان بلبوس ديني مقدس.
هذا الإخطبوط يعبر عن نفسه في مراحل لاحقة من خلال جماعة كذا و كذا و جبهة هنا و أخري هناك و جند لتحرير الشام و آخر للعراق و جبهات في ليبيا و اليمن …و له أذرع إعلامية و سياسية طويلة وقاسمهم المشترك : القتل العبثي.
لم تكن هذه الجماعات موجودة من قبل ولم تصل حالة الانقسام في الأمة درجة الاقتتال مهما كانت الخصومات و المصالح فلا بد إذن من علاقة سببية بين هذه الظاهرة الجديدة وهذا الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة اليوم و الذي يمكن أن نقول بلا مبالغة إن سقوط بغداد كان له نقطة البداية في فصله الجديد علي الأقل…… وكان القنوات الفضائية توزع بذوره في كل بيت عربي في كل يوم وليلة.

“الجزيرة” و “العربية”: غلبة السياسة علي المهنية

بالأمس كان الكتاب من يصنع الرأي و الموقف و لم يكن الكتاب إلا لمن يقرأ و يريد أن يقرأ و يملك إمكانية اقتناء المقروء و بالتالي كان الصراع خلافا لا احترابا و كان الخلاف بين مفكرين يعرف كل منهم حدود الممكن و الخطوط التي يجب علي الجميع مراعاتها واحترامها ولم يكن أحد في وارد تصنيف خصمه عدوا لأن عدو الجميع معروف ويذكر بنفسه جهارا كل يوم ….
كانت المهرجانات و البيانات المكتوبة و النشريات و الإذاعات الرسمية هي الوسائل الوحيدة الممكنة لتوصيل خطاب للناس وكانت محدودة التأثير السلبي علي تماسك الأمة و انسجام الشعوب.
فالإذاعات الرسمية – و هي الأكثر تأثيرا – بيد سلطات مركزية مهما كان طيشها و نزقها و صراعاتها فيما بينها لم تقبل أن تخرج حملاتها الدعائية عن دائرة استهداف الحاكم الخصم و سلطته ولذلك ظلت الخلافات البينية محصورة علي مستوي الحكام و الأنظمة.
اختلف البعض مع عبد الناصر فلم نسمع بسنيته و لا شيعية غيره و اختلف السعوديون مع الثورة اليمنية فما سمعنا بزيدية اليمن ولا حنبلية آل سعود……كان الصراع أفقيا….
انقلب الشباطيون علي ثورة البعث في سوريا وناصب حافظ الأسد العداء للعراق في حرب الثماني سنوات ولكن رغم المرجعية الطائفية المشتركة بين العلويين و الشيعة الإمامية لم نسمع أحدا في العراق يقول باستهداف السنة من نظام الأسد و لم نسمع بشيعة و سنة العراق أو إيزيديته ولا صابئته ولم يكن إلا القلة منا يعلمون شيئا عن مكونات فسيفسائه الدينية و الطائفية و القومية قبل الفتح الجديد!!!
ما حصل اليوم أن القنوات الفضائية أصبحت تدخل كل بيت وتخلق الرأي كل يوم و تتنافس في اغتصاب عقل المشاهد موظفة في سبيل ذلك كل وسائل التوجيه من حبكة في صياغة الخبر و اختيار الألوان و تصفيفها و إخراجها بطريقة مبهرة تجعل الإنسان العربي البليد يقبل الخبر اليوم و يقبل ضده غدا !!!!!
في هذا الخضم بزغت “الجزيرة” و “العربية” لتتقاسما الأدوار في توجيه الرأي العام العربي المسكين و قد تلتقيان في جهد واحد كما حصل في المشروع التدميري الخبيث للعراق …… لا شك أنهما جاءتا بمزية تقديم الأخبار حية للمشاهد العربي بلغة يفهمها وأدخلتا اللغة العربية لعالم الإعلام المعاصر وكانتا قناتين منافستين قويتين في عالم المرئي المسموع لكنهما تمتلكان من أسباب التدمير الداخلي ما إن جميع القنوات الأجنبية مجتمعة لتعجز عن القيام بجزء مجزإ منه وقد اضطلعتا بدورهما علي أتم صورة في هذا المجال .
تكفلت هاتان القناتان بتصوير الخيانة رجولة و المحرم واجبا و المبادئ مجرد أسهم و سندات في واحدة من أكثر برص القيم المتحركة حيوية و تقلبا.
صورت هذه القنوات تدمير العراق وتفتيته فتحا مبينا و ثورة كبري ستحول ليل الأمة البهيم إلي ضياء منير و كذلك الحال في تخريب ليبيا و تآمر الجمع بقضهم و قضيضهم علي سوريا الدولة و المؤسسات و الجيش في واحدة من أقذر الحروب و أكثرها فتكا علي الإطلاق……واليوم يعودون بلا حسيب لما فعلوا بمئات الآلاف من شبان العرب والمسلمين قتلا والملايين تهجيرا……مجرد لعب أطفال !!!!!!
طوعوا الفتوي ودجنوا الفقهاء فكانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله…..فبوصلة المفتي لم تعد نصا منزلا و لا حديثا مؤولا بل مزاج سلطان متقلب لا يملك من أمره شيئا و لم يؤت أصلا من العلم و الرشد إلا القليل القليل لكنها فتوي سيتم إخراجها بتقنية إعلامية عالية في اختيار الصيغة الخبرية والصورة المناسبة ووقتا من أكثر الأوقات ذروة.
فقتل المسلم في الشام واجب شرعا كما الخروج علي السلطان هناك و الصولة مع ساركوزي في ليبيا غزوة مباركة و فتح مبين وتدمير اليمن يقرب إلي الله زلفي في حين أن الخروج علي المرحوم محمد مرسي كفر بواح و انتقاد الأوضاع في مشيخات النفط يبعد صاحبه عن الجنة سنوات ضوئية …..هكذا هي مهنية إعلامنا العربي المعاصر!!!!
كان الصراع مع الشاه يرتكز علي موقفه من القضية الفلسطينية و احتلاله لمناطق عربية وفي نزعته التوسعية اتجاه دول الخليج العربي فلما جاء الخميني أخذ الصراع عناوين أخري فقال إن “طريقه” إلي القدس يمر حتما بكربلاء و لكن لا إبان حكم الشاه و لا إبان سلطة ولاية الفقيه لم نصل إلي درجة توظيف الخلاف الطائفي لكسب الصراع ولا الحديث عن “الرافضة” و لا “النواصب”….
لكن ما إن اندلعت خصومات البيت الخليجي حتي تعرت أذرعهم الإعلامية و انكشفت حقيقتها فبدأت بكشف المستور …………..فما من قوم اجتمعوا علي معصية إلا وتفرقوا عن عداوة.
“العربية” و من وراءها يطالبون بحوار الأديان بل و يذهبون بعيدا إلي حد القول بأن لليهود حقا تاريخيا في المسجد الأقصي و لا يتورعون رغم هذا الإنفتاح المفرط و الفاضح أن ينقلوا الحرب إلي داخل البيت الإسلامي.
حين تخبرنا “العربية” أن الشيعة هم العدو الأول يتردد الصدي سريعا في خطب الجمعة و في الدروس السابقة للصلاة و اللاحقة لها ثم حين تأتينا بعد حين لتقول إن القرضاوي و رهطه أصبحوا من إرهابيي هذا العام يهلل لها بعضنا و هم كثر بالشكر و الثناء علي “اكتشاف” حقيقة جماعة الإخوان المسلمين !!!!!!
الجزيرة بدورها بدأت تنبش لنا مساوئ آل سعود وتخبرنا أن حرب اليمن منكر مبين !!!!! صدق نابليون حين قال إنه يخشي قلما واحدا أكثر مما يخشي مائة بندقية.
خطورة هذه الأذرع الإعلامية أنها بدل أن تساهم في خلق الوعي المنتج و إنارة العقل و صقل المواهب فإنها تقتصر علي نقل رأي الحاكم و موقفه و ما تمليه ضرورات بقائه في السلطة و ما يجب في حق خصومه في الداخل و في الخارج فيصبح هذا الحاكم هو من يوجه الرأي العام عن بعد ويدير معركة التنمية السياسية والثقافية !!!
نحن بحاجة لصقل العقل العربي من شوائب هذه الصناعة الخبيثة الماكرة و تحصينه بعد صقله كما أننا بحاجة لرسم سلم أولويات لمواجهة التحديات الوجودية التي تواجه الأمة في حاضرها و مستقبلها و أن ندرك أن الإسلام مستهدف من أعدائه بأبنائه.
كان الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون قد بلور نظرية “المخاطرة صفر” بمواجهة العدو من الداخل من خلال كتابه : “نصر بلا حرب” و هو ما نجحت فيه الولايات المتحدة كثيرا في صراعها مع المعسكر الشيوعي.
وهي نظرية يتم تطبيقها بحرفية عالية علي العرب اليوم …….هم الآن ينتصرون علينا بلا حرب نموت نحن بأيدي بعضنا بعضا و نشتري سلاحهم فتنمو صناعاتهم بأيدينا وعلي جثثنا وغدا لما تنتهي الحروب سنعيد إعمار ما دمرناه من خلال شركاتهم وصناعاتهم…..نحن أمة تتيه
فهل يكون العام الجديد مختلفا عن الأعوام السابقة أم يكون امتدادا لها…….لا مبرر لأمل كبير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى