قراءة لكتاب “في ضيافة ملائكة العذاب”
باباه ولد التراد

قرأت كتاب الإعلامي الكبير والكاتب المتميز عبد الله ولد محمدو ” في ضيافة ملائكة العذاب ، فصل من قصة تعذيب السجناء البعثيين في موريتانيا سنة ١٩٨٢ ”
الذي يعد أهم كتاب يكشف الغطاء عن فترة تاريخيّة صعبة عاش مرارتها المؤلف بنضاله ودمه ولحمه ، ليتناول بالنقد والمعالجة الاختلالات الخطيرة التي أنزلتها بعض الأنظمة السياسية بالفئات الضعيفة والمنافحين عن الحرية عن طريق أبشع وسائل التعذيب وقطع الأرزاق ،-داعيا إلى الإسراع لتدارك الوضع من خلال مجهودات نوعية تصب في محاولة تشكيل العقلية عن طريق التبصر والتنوير والإدراك المقوي للدراية ،وتسليط الأضواء على التشوهات في المفاهيم والمسلكيات
وقبل أن يبوح المؤلف بما أسعفته به الذاكرة عن واحد من فصول الملاحقة والتعذيب الذي حاق بالبعثيين ، تطرق الكاتب إلى جملة من القضايا من بينها:
– حركة التطوع: التي اشتد الإقبال عليها من المنتمين للتيارات السياسية وغيرهم من المواطنين على اختلاف مشاربهم وأهدافهم ، لأن كل الأطراف وجدت فيها ضالتها . بصفتها حركة جماهيرية شغلت المجال الشاغر الذي خلفه غياب الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. وبذلك خلقت بئة تنافسية بين جميع الأطراف نجم عنها بناء الكثير من الفصول الدراسية ، ومحو الأمية الأبجدية عن عشرات الآلاف من المواطنين ،كذلك فقد وجدت التيارات السياسية الفرصة المناسبة لنشر أفكارها واكتساب العديد من المنتسبين المدنيين والعسكريين وعلى جميع المستويات.
وهنا يؤكد المؤلف أن نجاح حركة البعث في توظيف حركة التطوع هذه لصالح توسعها كانت من بين الأمور التي دفعت نظام ولد هيداله إلى الخشية من البعث والانقضاض على أعضائه والزج بهم في السجون ، ولكن باعتقالهم تم القضاء على حركة التطوع.
⁃ويوضح الكاتب أن البعثيين قد انتهجوا في وقت مبكر سياسة تهدف إلى دمج واستيعاب العرب السمر “لحراطين ” ضمن خيار وطني وتحرك سريع من أجل إنهاء الرق ويثمن التعايش والمساواة ، وبدأت تلك السياسة بالضغط على النظام لإصدار قوانين تجرم الرق من جهة واتخاذ خطوات لتعيين الأطر من هذه الفئة في المناصب العليا وتوفير فرص العمل الخاص المثمر لبعضهم من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك فقد كلف حزب البعث بعض الرفاق بالتوجه إلى مناطق تواجد لحراطين في آفطوط وآدوابه للسكن معهم والتعاطي معهم في السراء والضراء
⁃وبخصوص ١٦ مارس ١٩٨١ : يقول المؤلف أصبح جليا أن حركة البعثيين أصبحت قوة متمكنة بانتشارها بين أوساط الجماهير والقوات المسلحة حيث كان ضباط ينتمون إليها في صدارة التصدي للكوماندوز وإفشال خطته ليس فقط في الإذاعة إنما أيضا في رئاسة الجمهورية وفي قيادة الأركان.
وبذلك يعطي المؤلف الدليل الأول بأن البعثيين أظهروا يوم ١٦ مارس أنهم لا يريدون السلطة لأنهم حكموا البلاد لمدة يوم كامل وتركوها بإرادتهم.
ويؤكد هذا أن الانطباع السائد في هذه الفترة أن البعث وخاصة بعد ١٦ مارس أصبح يسيطر على الوضع لدرجة أن بعض الدبلوماسيين الأجانب كانوا يغازلون البعثيين ويكاشفونهم بالاستعداد للتنسيق معهم في حالة ما إذا قرروا تغيير النظام.
وسواء كانت قوة البعث في موريتانيا قد تضخمت أو ضخمت فقد ساهم ذلك في التحريض على البعثيين لغرض القضاء عليهم.
أما الدليل الثاني فهو أن قيادة حزب البعث في موريتانيا اجتمعت بفترة وجيزة قبل الاعتقالات سنة ١٩٨٢ وكانت بحوزتها معلومات مؤكدة بأن الاعتقالات ستجري خلال أيام وقد اغتنم بعض أعضائها الفرصة لطرح فكرة الاستلاء على الحكم تفادياً للتصفية ورفضت القيادة بالأغلبية الساحقة خيار الانقلاب رغم المخاطر الداهمة.
وهنا يؤكد الكاتب أن فكر البعثيين في موريتانيا اتسم بالوطنية والتصوف في علاقتهم بالسلطة ، وأسوأ ما في الأمر أن البعض يصفهم بالتبعية للعراق مع أن البعث سابق على النظام البعثي في العراق .
والواقع أن بعض المكونات الحزبية ذات الاتجاهات الميكافيلية هي التي تعاطت مع الدول الغربية الاستعمارية ، حتى بلغت الجرأة في مغالطة الرأي العام والاستخفاف به ضرورة اعتبار أن كل من يطالب بترسيم اللغة الأجنبية شخص معتدل وموضوعي ووحدوي ومن يطالب بترسيم اللغة الوطنية العربية شخص متطرف عنصري مثير للفتنة.
– وتحت عنوان الترهيب: وصف المؤلف مشاهد التعذيب المروعة التي تفنن الجلادون في استخدامها معتمدين على تجاربهم الخاصة وما اكتسبوه من بعض الدول ومن المطالعات البوليسية ، وقد طبقوا كل أنواع التعذيب وابتكروا طرقا جديدة أو اكتشفوا بالصدفة بعضها للتأثير بشدة على المعتقلين
ونظرا لكثرة ما تعرض له البعثيون من أساليب التعذيب التي أسهب المؤلف في بشاعتها فإنني لا أستطيع أن أصف هول المشهد من خلال هذه الفقرات لذلك سأتطرق بإيجاز لأنماط محدودة من التعذيب :
⁃الضرب :
فعند لحظة دخول المعتقل غرفة التحقيق يصفعه المفوض بأمواج متلاحقة من الصفعات واللكمات القوية فيسقط على الأرض وربما تسقط أسنانه أو يصاب بكسر في الفك، وبعد ذلك يحمل المعتقل بعنف ويضجع على قفاه فوق القضبان الصدئة وأسلاكها الناتئة ويقف على كل طرف من أطرافه رجل شرطة ويأتي الخامس ويبدأ رفسه على بطنه … وبعد أن يكون الألم قد انتشر في كل بدنه يفقد الوعي ، ومن ثم يسكب عليه الماء البارد، بعد ذلك يحملونه إلى الأعلى حذو المنكبين ويسقطونه على مؤخر رأسه حتى يشعر بارتجاج شديد في دماغه و لا يشعر الضحية بالعشرات من شظايا المحار التي دخلت رأسه وظهره إلا بعد أن يعاد لغرفته في ساعات الفجر الأخيرة ، وهذه الوجبة من التعذيب قد تسفر عن كسور وجروح ورضوض مختلفة تترك دون علاج…
⁃الوقوف:
استفاد الجلادون من ظروف الطقس وطفقوا يجبرون بعض الضحايا على الوقوف ساعات طويلة في الساحات الجرداء ويهرقون المياه الباردة عليهم حتى تنتاب أجسامهم رجفة عظيمة وتبدأ أسنانهم تصطك وقد يسقط الضحية أو يترنح آخر إذا طال الوقوف..
⁃الوأد:
لقد أمر الجلادون بعض الضحايا بحفر قبور ويوضع فيها الضحية وتهال عليه التراب حتى لا يبقى منه سوى وجهه وفي البداية يصاب الموؤد برعب لأنهم في اعتقاده قد يعمدون إلى قتله ويتعزز ذلك الاعتقاد لديه بالتهديدات..
⁃الحزام الكهربائي:
وهو حزام عريض يلف بإحكام حول خصر الضحية وينفخ فيه آليا حتى يظن أن جوفه سيخرج من فيه ثم يفقد الوعي..
⁃الجكوار:
وهي عملية لا يصبر عليها أصلب الناس عودا وأقواهم بنية فهي تلحق ضررا بالغا بالإنسان وتفقده الوعي وقد تؤدي إلى موته..
⁃التهديد بالاغتصاب:
يقول الؤلف أنا في زنزانتي الملاصقة لمكتب التحقيق وبجانبي الأستاذ الخليل النحوي سمعت من ضمن ما أسمعه كل ليلة ألم صرخات تطلقها إحدى الفتيات المعتقلات ، وبعدها صدرت الأوامر بوقاحة افعلوا بفلانة كما فعلتم بفلانة ، لكن لحسن الحظ لم ينفذ الجنود الأوامر.. وقد سجل الخليل النحوي هذا المشهد في أبيات من قصيدته الدرب التي سربها من السجن..
⁃الآسيد (الحمض) :
يصف الكاتب بشاعة استخدام هذا النوع من التعذيب بقوله: لقد استخدم هذا النوع من التعذيب نهارا جهارا في قاعدة الهندسة العسكرية ضد أحد السجناء هو الصحفي محمد حرمه ولد محفوظ حيث أخذ الضحية إلى الساحة عصرا وسكبت على ساقه مادة الأسيد فصرخ صرخة مدوية من شدة الألم وتقشر جلده بعد ذلك وتلفت بعض أنسجته وتحولت إلى بقع بيضاء وبالطبع أعاقه ذلك عن المشي ، وبعد فترة نقل إلى المستوصف العسكري صحبة مجموعة أخرى من المعذبين وكان المؤلف من ضمنهم، واعتبر أن هذا النقل كان الضارة النافعة للمعتقلين جميعا ..
⁃حفلة الشواء :
يقول المؤلف كانت الضحية هذه المرة ذلك الرجل الضعيف البسيط الذي لم يكن له مركز قيادي لكنه شهم مخلص إنه البطل المرحوم يمهل ولد ختاري ، لقد تم إحضاره في وقت مبكر من ليلة ليلاء على غيرالعادة، وانتزعت ثيابه وأخذت كميات كبيرة من الجمر الملتهب وأمسك رجال أشداء أطرافه الأربعة وأخذوا يشوونه كما تشوى الدجاجة حتى نضج اللحم وغاب الرجل عن الوعي، وكانت رائحة الشواء تزكم الأنوف ، ولم نكن نعلم من أين تأتي ولم يدر بخلدنا أن لها علاقة بالتعذيب فهذا أمر لم يكن بالمقدور تصوره ولم نسمع تأوها أو صراخا ،وبعد أن تكشفت الفاجعة سنعلم أن الضحية قد أنذر الجلادين بأنه إذا تعرض للتعذيب فإنه سيصوم عن الكلام ولو مزقوه ،ولقد أنجز الحر ما وعد صبر صبرا جميلا كما صبر آل ياسر ولقد ساءت حالته الصحية فاضطروا لنقله إلى المستوصف العسكري ،وبقي زهاء ستة أشهر جالسا لايستطيع الإضجاع ينام جالسا ولقد ألبس من الضمادات ماجعله يبدو مكفنا وهو حي ولم يكن أحد يتوقع أن ينجو مما أصابه .
⁃في المستشفى العسكري: يقول المؤلف جيء بنا ( أربعة سجناء ) في أوقات مختلفة دون أن يعلم أحدنا بالآخر ، كان الضابط الطبيب الرئيسي يفحصني وكان يتبادل الآراء مع مساعده فقال له إنهم لحسن الحظ شباب أقوياء ويتحسنون بسرعة رغم خطورة إصابتهم ..يا للتخلف بدل توظيف قوتهم فيما يفيد هاهم يدمرون أنفسهم ويثيرون الفتن لسبب المراعي والآبار وما إلى ذلك ، أجابه مساعده لو أنهم يفهمون الفرنسية لبينا لهم ان مرضهم يحتاج إلى عناية تامة لمدة سنة كامل على لأقل …. وربما إذا افرج عنهم وتماثلو قليلا للشفاء أعادوا إلى صراعاتهم القبلية … قاطعته قائلا : من تعنى ؟
-أجاب بتعجب وارتباك هل تفهم الفرنسية ؟
– نعم
-حسن حسن جدا ردداها معاً
– لماذا تتقاتلو بسم القبائل على الماء والكلأ؟
– لابد أنكم مخطؤون نحن بعيدون كل البعد عنما وصفتم نحن سجناء رأي تعرضنا لتعذيب لمدت شهور وماترونه هو بعض آثار ونعكسات ذلك .
-قاطعني الشرطي وزجرني وأمرني بالسكوت لكن الطبيب أسكته وطلب مني مواصلة الحديث وأطلعني على وجود زملائي السجناء الثلاثة الأخرون’
ومن ذلك اليوم تغير تعامل أطباء المستوصف الفرنسين معنا وأخذوا يضاعفون رعايتهم لنا وسأعلم لاحقاً أنهم كتبوا تقريراً لمنظمة العفو الدولية ونشرت المنظمة فحواه ‘ وأنذرت الحكومة الموريتانية بأنها ستواجه عواقب وخيمة إذا استمر الوضع على ماهو عليه ويبدو ان الحكومة تفاجأت بالتقرير وابعدت الطبيبين الفرنسيين ، ولكنها في نفس الوقت بدأت باتخاذ بعض الإجراءات للتخفيف عن المعتقلين وإطلاق سراح البعض منهم والتعجيل بمحاكمة من تعتبرهم خطراً على أمنها لذلك قامت بتحويلنا إلى السجن المدني وكنا مانزال حتى تلك اللحظة مقطوعين تماما عن أسرنا ولايعرفون هل نحن أحياء أو في إعداد الأموات
⁃وفي السجن المدني : يقول المؤلف كنت اقرأ كتاباً على ضوء قنديلٍ صغير في فناءٍ يفصل بين صفي الزنزانات وإذا بشئ يتدلى ويكاد يلمس وجهي جفلت منه محاولا ازاحته فإذا بالحرس الذي يحرس المربع من فوق السقوف، ينحني ويشير إلي بأن أصمت وأن أحل الصرة في طرف الرداء المتدلي.. وبسرعة فائقة، فعلت فإذا بورقة مطوية بإحكام أخذتها وفرائصي ترتعد، ليس من الخوف وإنما من شدة الفرح ودخلت الغرفة وقرأت بسرعة إنها رسالة من شقيقتي العزيزة مريم، تبلغني سلامتهم وسلامة الوالدة والأهل عموما وتطلب مني أن أكتب إليها عن طريق ساعي البريد الخاص هذا الذي سيدلي لي رداءه عند الإشارة لأخذ الرسالة الجوابية، على أن أتلف الرسالة بعد قراءتها خوفا على سلامته.. فعلت ذلك بسرعة مذهلة وبت ليلتي تلك، استمتع بالأخبار التي وردت في الرسالة ويتملكني شعور غريب بالغبطة والرضى والاعتزاز بهذه الأخت الكريمة المناضلة التي كانت أول من اقتحم بهذه الطريقة، الأسوار العالية للسجن وذلك الصمت الرهيب والتكتم اللذين ظلا يلفان واقعنا منذ اعتقالنا قبل عدة أشهر وحتى الآن.
أبلغت بعض الرفاق بما حصل، وقررنا استخدام هذه الطريقة للتواصل مع جميع الأهالي، إذا ثبت أنها طريقة سالكة. وسيتبين أن هذا البريد الجوي، بداية لجسر سيربطنا لفترة من الزمن بالأهل، ويفك عزلتنا القسرية دون أن تشعر السلطات رغم يقظة المخابرات والإجراءات المشددة حولنا..
⁃أما في قاعدة اجريده: فيقول المؤلف إننا في كل مرة ننقل إلى مكان جديد، كنا نستقبل بتجهم ووجوم في الأوجه وتشدد في إجراءات الأمن وكانت طريقتهم في قرى الضيوف تبدأ بسوء المسكن والمطعم، ولم تشذ اجريده عن هذه القاعدة.
⁃وفي بداية كل مرة، كنا نبتئس بهذا التشدد في المقام الجديد لأننا تمرنا على التعامل مع القائمين على الأماكن التي جئنا منها .. وبعد أيام العسر الأولى في المكان الجديد، يأتي اليسر من حيث لا نحتسب.
⁃لم يكن الأهالي وهم أشدنا ابتلاء وأقسانا تضحية، يعلمون أننا نقلنا إلى اجريده مع أنهم يبذلون الغالي والنفيس لملاحقة أخبارنا ولن يعلموا إلا بعد مرور أيام طويلة.
⁃كنت أعرف أن ابن عمي إسماعيل وهو أصلا ضابط من خريجي المدرسة العسكرية في أطار، مسجون في اجريده مع من تبقى من جماعة 16 مارس حيث يقضي حكما بالسجن مع الأعمال الشاقة ولكني لم أكن أطمع في أن أراه، تماما كما لم أتوقع من قبل رؤية ابنة عمي ميمونة التي سبق أن اقتيدت عنوة في ليلية من ليالي الاستجواب إلى قاعدة الهندسة العسكرية حينما كنت فيها. وكما ذكرت سابقا كانت قاعدة الهندسة، سجنا كبيرا زج بمئات الأشخاص فيه شبابا وشيوخا وأطفالا ولم تسلم النساء من التحقيق معهن فيه. لم أنس أن إسماعيل شاب شجاع، له قدرة مذهلة في التواصل مع الناس والارتباط بعلاقة قوية معهم ولكني لم أكن أتوقع أن يكون قد نجح في التغلغل داخل الجنود الذين يحرسونه في اجريده والتأثير فيهم لدرجة توظيف البعض منهم لتنفيذ مهام لصالحه، من قبيل توصيل رسائل للأهل والأن للتواصل مع القادمين الجدد من السجناء مثلي إلى القاعدة.
ذات مساء خرجت لقضاء الحاجة من الغرفة الصغيرة التي كنت أتقاسمها مع عدد من الرفاق في عزلة مطبقة وانقطاع تام عن الأهل وعن أخبار البلد.. فجأة همهم الحارس الواقف أمام الغرفة ممتشقا رشاشه، بكلمات لم أتبينها في البداية إلى أن كررها بسرعة، مشيرا إليّ بأنه يحمل رسالة لي سيتركها حيث يقف.. عدت بسرعة والتقطت الورقة وكان العسكري قد تقدم خطوات في اتجاه الشرق حيث حال جزئيا بيني وبين المبنى الذي تقع فيه قيادة القاعدة. وبلهفة وتشوق، قرأت الرسالة وعرفت خط الأخ إسماعيل الجميل يقرؤني السلام ويعتذر عن تأخر الاتصال بسبب شدة الحراسة ويخبرني بظروفه وبمعلومات عن الأهل ويقول إنه قادر على مساعدتنا إن كنا بحاجة إلى أي شيء بما في ذلك توصيل رسائل إلى الأهل وهذا هو أهم ما في الأمر.
بعد أيام ربطنا عبر ذلك العسكري، اتصالاتنا بالأهل وبدأنا تبادل الرسائل معهم وبالتدريج بدأنا نتعود ويتحسن الحال..
العجيب في الأمر أننا في كل مرة يشتد فيها الطوق حولنا وتزداد إجراءات عزلنا، يقيض اللّٰه لنا ثقبا في حائط أو خيطا من السماء أو وسيلة أخرى، ننفذ منها وبها ونربط من خلالها علاقات بالأهالي، فلم يفارقنا اللطف، كذلك لم تفارق البعض منا، روح المرح والفكاهة والمزاح في مختلف مراحل السجن مما ساهم دائما في إضفاء جو من الإنسانية على واقعنا. لقد كان من بين السجناء، ظرفاء تجود ملكاتهم في أوقات الحرج وفي الظروف غير المنتظرة، بنكت ودعابات تترك أثرا كبيرا في الأنفس، ومن هؤلاء الإخوة باب الغوث والتراد ولد ديداه وممد ولد أحمد ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل.
كان الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل ذات يوم وقد اشتد التشاؤم حتى لا أقول القنوط من الإفراج عنا، يداعب ويلاطف البعض قائلا: إنه استخار عن موعد الخروج من السجن وإنه رأى رؤيا أكيدة مفادها أن من أهدى إليه كبشا أبيض ناصعا لا شية فيه وعمامة بيضاء ناصعة وإيلويشا أبيض، سيطلق سراحه.
ومن حسن الصدف، أنه بعد أيام من تلك “الرؤيا” أفرج عن مجموعة من السجناء، فلقد دأب المشرفون على الحملة ضد البعثيين، بعد تزايد أعداد المعتقلين، على إطلاق وجبة من الموقوفين بعد انتهاء كل مرحلة من مراحل التحقيق، بحيث لم يبق في النهاية إلا عدد محدود.
– المحاكمة:
وكمثال على تضحية البعثيين والتنكيل بهم فقد جرى سنة 1983 انعقاد أول محكمة عسكرية ، توجه فيها التهمة لمواطنين موريتانيين على رأيهم السياسي، في ثكنة أجريدة العسكرية ، في الفترة ما بين 25 سبتمبر وفاتح اكتوبر 1983، حيث صدرت في حقهم أحكام قاسية تتراوح مدتها ما بين 12 إلى10سنوات نافذة و5 سنوات مع وقف التنفيذ ، بعد أن لبثوا في السجن أزيد من سنة بدون محاكمة ولم يخرجوا من سجون : باركيول وتيشيت، لعيون، بومديد، أوجفت، وادان، كيهيدي.. إلا منتصف دجمبر 1984، بعد انقلاب 12/12من نفس السنة.
وقد تشكلت هذه المحكمة برئاسة الرائد: صاو صامبا
وعضوية كل من: النقيب العربي ولد سيد عالي، الملازم اديابرا الشيخ، المدعي العام: النقيب جدو ولد حكي ، كاتب الضبط: الرقيب أول با صامبا
وقد وُثِّقَ محضرهذه المحكمة تحت رقم 201/ 1983
يقول المؤلف وإمعانا في التشويه والتشويش والتضليل، أضافت المحكمة حكما بمصادرة أموال وممتلكات الضحايا لصالح “الأمة” مع علمها أننا فقراء لا نملك سوى ضمائرنا، على خلاف غيرنا من الذين تسلقوا السلالم الإدارية في الدولة ونهبوا الأموال واصطنعوا مكانة لهم بين الأغنياء على حساب مصالح الشعب. ووجهت المحكمة لنا تهم المساس بالأمن الوطني والتخابر مع قوة أجنبية بما يلحق الضرر بالوضع العسكري والدبلوماسي لموريتانيا.
كانت التهم أشد وقعا وأسوأ تأثيرا على الأنفس من الأحكام ذاتها مع أننا كنا نتوقع الأسوأ بسبب ما لمسناه من نزعة ثارية انتقامية لدى المحققين وأعضاء المحكمة وبسبب قنوطنا من إمكانية وجود أي نوع من الإنصاف أو العدل في ظل النظام السائد وأمام محكمة عسكرية استثنائية تعقد في قاعدة عسكرية معزولة.
أفرجت المحكمة عن العديد من رفاقنا وأخلت سبيلهم وساهم ذلك ومعه الشعور بانتهاء العلاقة مع الجلادين وأعضاء المحكمة ذاتها، في التخفيف من الوقع الصاعق للتهم والأحكام والظلم الكبير الذي عبأت دولتنا، كل وسائلها وشمرت عن ساعد الجد، لفرضه علينا وكأنها في .منازلة كبرى مع قوة غاشمة أو في مواجهة خطر عظيم محدق.
– وفي المنافي الداخلية يقول المؤلف : تم توزيع المحكوم عليهم إلى مجموعات، نقلت في ظروف استثثانية صعبة للغاية إلى مناطق معزولة في العمق الموريتاني.. نقلنا ليلا من اجريده، وسط إجراءات أمن مشددة للغاية وبين طوابير من الجنود والسيارات العسكرية، امتدت على طول الطريق الرملي بين نواكشوط واجريده. وفي منتصف الطريق، أنزلنا من السيارات واعيد توزيعنا مجددا على سيارات عسكرية أخرى من نوع لاندروفر انطلقت بنا كالسهم عابرة شوارع العاصمة المظلمة، في اتجاه الشرق على الطريق المعروف بطريق الأمل.
لم نكن في البداية نعرف ماذا يراد بنا، ولما شاهدنا شدة الإجراءات الأمنية وكثرة المدججين بالسلاح، تصور البعض منا أنهم سينفذون حكم الإعدام في عدد منا، مثلما فعلوا سابقا مع غيرنا من السجناء، لكن عندما غادرت السيارات وعبرت المدينة وبدأت تسير على طريق الأمل، أدركنا أننا في طريقنا إلى منافي داخلية.
كان من حسن حظي أن مرافقَيّ في هذه الرحلة، هما الأخوان الفاضلان الخليل ولد انحوي ومحمد فاضل ولد سيدي هيبة، كنا ثلاثتنا قد أجلسنا في الحوض الخلفي غير المريح للسيارة التي كان سائقها العسكري ينطلق بسرعة مذهلة غير مكترث بحركة السير أو بالمطبات والعوائق على الطريق ‘ وكان إلى جانبه، ضابط من الحرس الوطني .. ولم تتوقف السيارة إلا عند مدخل مدينة الاك، حيث سمح لنا باداء صلاة عاجلة .
واستأنفت الرحلة، ولم نتوقف إلا في مدينة كيفه ومنها نقلنا على الفور إلى سيارة أخرى انطلقت بنا مباشرة تحت حراسة فرقة من الحرس، إلى بلدة بومديد إلى الشمال من كيفه حيث سيكون منفانا الجديد.
وكان على حاكم المقاطعة الذي لم يزود بتعليمات محددة وإنما نقل إليه سجناء ومعهم منطوق حكم مشدد بالسجن والأعمال الشاقة ومصادرة الأموال أن يعتمد في غياب تلك التعليمات، على رأي معاونيه وهم أساسا ضباط الصف الثلاثة في فرقة الحرس فاستشارهم في كيفية التعامل مع هذه النازلة: ماذا يصنع بنا؟ وجاء الجواب سريعا من قائد الفرقة المساعد الأول محمد ولد اسويدي قائلا.
لدينا مدارس دمرتها سيول السنة الماضية وبنايات خربة ويمكن أن ستعملهم في ترميمها وبنائها!
لحسن الحظ كان مساعداه العريفان محمد محمود ولد الصديق وأحمد سالم ولد الفلالي، رجلين شهمين وكنت قد تعرفت شخصيا على محمد محمود مع الرئيس السابق المصطفى ولد محمد السالك الذي ربما تربطه به صلة قربى أو علاقة صداقة، أما أحمد سالم، فإني لا أتذكر بداية العلاقة بيني وبينه لكنه كان مثل زميله، رجلا دمث الأخلاق كريما متزنا وهادئا.. ومن أجل أن لا يشك فيهما ولد اسويدي، حاولا إقناع الحاكم بحجج عقلية فقالا له: هؤلاء شباب جاءوا من نواكشوط عاصمة الحل والعقد، وجاءوا لا يحملون من المتاع إلا الكتب وبعض الثياب ولا يبدو أنهم تعرضوا للأعمال الشاقة، ولذلك نقترح أن تنتظر حتى تأتيك تعليمات صريحة بشأنهم، فإذا كانت الحكومة تريد معاقبتهم بالأعمال الشاقة، فإنها ستأمر بذلك وتتحمل وزر فعلها، أما إذا لم يكن الأمر على ذلك النحو، فقد كفى اللّٰه المؤمنين القتال، خير لنا أن نزهد في شطط لم نكلف به من أن نخطئ في حق هؤلاء الشباب خطأ قد نندم عليه طيلة العمر!
بعد الكثير من الأخذ والرد، أخذ الحاكم برأي العريفين
وشاء اللّٰه أن يكلل فضلهما بعد أشهر قليلة بأمر من الحكومة، يقضي بالسماح بزيارة الأهل لنا والترخيص لهم بتزويدنا بما نحتاجه وتخفيف التشدد في التعامل معنا، وكان ذلك نتيجة للضغوط التي واجهتها الحكومة والتي أدت أيضا إلى قبول مراسلتنا من قبل منظمة العفو الدولية وتزويدها إيانا ببعض الكتب والحاجيات البسيطة.
في هذه الفترة يقول المؤلف سلم علي رجل وقال لي اسمع أنا لا أعرف من تكون لكني انا رجل من شرفاء تيشيت وهؤلاء إخوتي ننتجع المراعي في هذه المنطقة بقطيع من الإبل وأنا شخصيا أعرف كل هذه الأرض وأعرف أرض مالي المجاورة كما أعرف محتويات جيبي وأقول لك يا بني إن الرجل لا يسجن إلا برضاه وأؤكد لك أن بوسعي أن أبلغك الليلة، مأمنك قبل حلول الصباح وأنا بذلك زعيم وعليه قوي أمين.
قلت له أنت رجل شهم لك ما نويت وبقولك هذا كأنك حررتنا من السجن ولكن هل يهرب الرجل من ميدان معركته ولماذا يهرب وهو لم يقترف ما يدعوه لذلك.. سيحدث ما يحدث ونحن هنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.. بارك اللّٰه فيك وفي إخوتك..
– وعندما جاء يوم 1984/12/12يقول المؤلف بدأنا الاستعداد للرحيل من بومديد والعودة إلى نواكشوط رغم أننا لم نستلم وحتى كتابة هذه الأسطر، أية وثيقة رسمية تفيد بإطلاق سراحنا ولم يتصل بنا أي مسؤول لإبلاغنا بذلك ولم تتخذ الحكومة أو السلطات الجهوية أية إجراءات لترحيلنا ولم توفر لنا وسيلة نقل.
وقد يبدو الأمر غريبا لكننا في الواقع تعودنا على مثل هذه التصرفات من الإدارة الموريتانية فهي إدارة لا تكتب، حين تقبض عليك ولا تكتب إذا أفرجت عنك.
ركبنا سيارة لاندروفر إلى كيفه وفي الطريق إلى نواكشوط امتطينا سيارة صغيرة ، بدت لي وكأنها مكوك فضائي، ينطلق بسرعة فلكية وانتابني خوف شديد وتصورت في لحظة من اللحظات، أن السائق قد جن وطلبت منه أن يخفف السرعة حتى لا يقتلنا فتعجب من الأمر وأجابني أنه لم يبلغ بعد 50 كيلومترا في الساعة،
والواقع أن طول المكث قد أدى إلى تعطل مؤشرات السرعة في ذهني ‘ ونتيجة لذلك كنت مضطرا لبدء رحلة جديدة طويلة ومكلفة من العلاجات تضاف إلى المعاناة السابقة التى قادتني إلى المستشفى العسكري لعدة أشهر.
ولكن لو لم يحدث ما حدث لما كان هذا الكراس.. وما شاء اللّٰه كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بهذا الاستسلام للواحد الأحد ختم المؤلف كتابه
القيم الذي سماه تواضعا كراسا ‘
والواقع أن هذا الكتاب المتميز تناول بالتفصيل حدثا لم يتطرق إليه كاتب من قبل’ خصوصا أن المؤلف كان جزءا من الحدث وقد كتب النص بأسلوب الصحفي البارع ‘ والمناضل الجسور ‘ والقائد الكبير الذي لا يحمل في نفسه الضغائن ‘ و الكاتب الغيور الذي لن يقبل التفريط في تضحيات المناضلين ولم يرض كذلك بقتل مرحلة مشرقة من تاريخ بلاده.
وقد تشرفت كثيرا بقراءة هذا الكتاب واستخراج بعض أفكاره ومعانيه واقتباس العديد من فقراته المترابطة وألفاظه السهلة الممتنعة .
ولقد عمدت إلى هذا الجهد المتواضع إعجابا بهذا الكتاب القيم الذي يعد رافدا مهما للمكتبة الوطنية وعنصرا أساسيا في معالجة قضايا الوطن .