مراجعة اتفاقيات التعاون الفرنسية الموريتانية عام 1972
محمد سالم ولد أكبار
مقدمة
تشكل مراجعة اتفاقيات التعاون الفرنسية–الموريتانية سنة 1972 لحظةً مفصلية في مسار تشكل الدولة الوطنية الموريتانية، وتجربة نموذجية لسياسات ما بعد الاستعمار في إفريقيا، ففي 30 أكتوبر 1972، رفعت إدارة الشؤون الإفريقية والملغاشية بوزارة الخارجية الفرنسية مذكرة داخلية (رقم: 447/DAM) تناولت المطلب الرسمي الذي تقدمت به الحكومة الموريتانية لمراجعة شاملة للاتفاقيات الموقعة مع فرنسا بتاريخ 19 يونيو 1961، و جاء هذا المطلب في سياق جيوسياسي اتسم بتنامي نزعات الاستقلالية لدى دول إفريقيا الفرانكفونية، وتزايد الانتقادات لبنية “العلاقات المميّزة” التي كرّست استمرار أشكال متعددة من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية.
إن دراسة هذه المراجعة تتيح مقاربة مركّبة، تتداخل فيها أبعاد القانون الدولي العام، وديناميات العلاقات الدولية، وبناء الهوية الوطنية.،فهي لم تقتصر على إعادة النظر في تفاصيل تقنية، بل انطوت على مشروع سياسي يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة مع القوة الاستعمارية السابقة، على أسس الندية والسيادة الكاملة.
الخلفية_التاريخية_والسياق_الجيوسياسي
عقب الاستقلال في 28 نوفمبر 1960، ارتبطت موريتانيا بفرنسا عبر منظومة من الاتفاقيات الشاملة التي نظمت مجالات السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد والثقافة. وقد مثّلت هذه الاتفاقيات امتداداً للمنظور الفرنسي في إدارة علاقات ما بعد الاستعمار، حيث واصلت باريس ممارسة نفوذ مباشر عبر آليات متعددة: المنطقة النقدية للفرنك، القواعد العسكرية، التعاون الثقافي والتقني.
غير أن مطلع السبعينيات شهد تحولات نوعية في إفريقيا الفرانكفونية، بادرت عدة دول – منها الكونغو والنيجر – إلى المطالبة بمراجعة مشابهة، غير أن الطابع الجذري للطلب الموريتاني تميّز عن نظيراتها، بما عكس إرادة سياسية واضحة لدى الرئيس المختار ولد داداه في القطع مع أنماط التبعية الموروثة، وتجدر الإشارة إلى أنّ بيان المكتب السياسي لحزب الشعب الموريتاني في 27 يونيو 1972، وما أعقبه من رسالة رسمية بعث بها وزير الخارجية حمدي ولد مكناس إلى الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو في 30 يونيو 1972، يجسدان انتقال الموقف من مستوى الخطاب الحزبي إلى الفعل الدبلوماسي المؤسسي.
المطالب_الموريتانية_الرئيسية_و_انعكاساتها
1. المجال الدبلوماسي والسياسة الخارجية
تمثّل المطلب في إلغاء امتياز “عمادة السلك الدبلوماسي” الممنوح للسفير الفرنسي في نواكشوط، وهو امتياز يرمز إلى استمرار الوصاية الاستعمارية في المجال البروتوكولي والدبلوماسي، و أبدت فرنسا استعداداً للتجاوب مع الطلب جزئياً، لكنها اشترطت تأجيل التنفيذ إلى حين انتهاء مهام السفير أدريان دوفور.
2. اتفاقيات الدفاع والمساعدة العسكرية
سعت موريتانيا إلى إلغاء اتفاقية الدفاع لعام 1961 وملحقها المتعلق بالمنتجات الاستراتيجية، واستبدالها بصيغة جديدة تركز على تكوين الأطر وتجهيز الجيش، بعيداً عن الامتيازات الفرنسية. بالمقابل، حاولت وزارة الدفاع الفرنسية الإبقاء على تسهيلات عسكرية في مدينة نواذيبو، مقترحةً نظاماً مماثلاً لذلك المطبق في الجزائر بعد الاستقلال.
3. التعاون الاقتصادي والنقدي والمالي
مثل هذا المجال جوهر التحول السيادي، إذ طالبت موريتانيا بالاستقلال النقدي عبر إصدار عملتها الوطنية ووقف الضمانة الفرنسية، كما طالبت بفتح حساب سلفة بملياري فرنك لدى معهد الإصدار، غير أنّ وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية اعتبرت أنّ هذه العلاقة محكومة باتفاقيات الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا.
4. التعاون الثقافي
انصب المطلب الموريتاني على إلغاء المكانة الرسمية للغة الفرنسية، وإنهاء أولوية المدرسين الفرنسيين، وإلغاء الامتيازات الجمركية الممنوحة للمواد الثقافية الفرنسية. وقد شكّل ذلك خطوة في مسار مشروع “التعريب” والذي تُوّج لاحقاً بإقرار دستور 20 يوليو 1991 الذي نص على العربية لغة رسمية وحيدة.
5. التعاون الفني والإداري
ركزت المطالب على فرض نظام ضريبي أكثر صرامة على المتعاونين الفرنسيين، وإلغاء الدور الفرنسي في توزيع الخبراء والأطر، بما يعكس إرادة التحرر من التبعية الإدارية.
الموقف_الفرنسي_والتداعيات_اللاحقة
وصفت المذكرة الفرنسية المطالب الموريتانية بأنها “كبيرة جداً”، معتبرةً أنها تستهدف “الإطار والروح” الحاكمين للتعاون منذ الاستقلال، و لوّحت باريس بإعادة النظر في سياستها التعاونية(المساعدات) تجاه نواكشوط، في إشارة إلى توظيف المساعدات الاقتصادية والعسكرية كأداة ضغط للحفاظ على النفوذ.
أما في المجال الثقافي، فقد تمسّك الجانب الفرنسي بالحفاظ على امتيازاته، انطلاقاً من اعتبارات تتصل بأهمية “القوة الناعمة” والدبلوماسية الثقافية الفرنسية، ورغم ذلك، فإن التطورات الدستورية اللاحقة في موريتانيا جسدت مساراً مغايراً، مؤكدة توجهاً نحو التعريب وبناء هوية وطنية مستقلة.
خاتمة
إن مراجعة اتفاقيات التعاون الفرنسية–الموريتانية عام 1972 لا تمثل فقط حدثاً ثنائيا في سياق العلاقات الدولية، بل هي تعبير عن دينامية ما بعد الاستعمار في إفريقيا، وعن صراع بين إرادة الاستقلال السياسي–الاقتصادي وبين آليات النفوذ الاستعماري الجديد.
وعليه، فإن هذه المذكرة تشكّل وثيقة مفصلية لفهم مسارات بناء الدولة الوطنية الموريتانية، وتُبرز كيف انخرطت موريتانيا، في عملية معقدة لإعادة تعريف الذات الوطنية ضمن توازن دقيق بين ضرورات الاستقلال ومتطلبات الارتباط بالنظام الدولي الموروث عن الاستعمار.
المصادر :
DOCUMENTS DIPLOMATIQUES FRANÇAIS
1972
MINISTÈRE DE L’EUROPE ET DES AFFAIRES ÉTRANGÈRES
COMMISSION DES ARCHIVES DIPLOMATIQUES