إطفاء الحريق أولا…..ومن ثم معالجة أسبابه
الدكتور محمد ولد الراظي
قد يبدو العنوان مثيرا لأن المعالجة الأمثل للأزمات ومواجهتها تبدأ حتما بالتصدي لأسبابها و من ثم البحث عن سبل التغلب عليها ولكن الحريق ليس أزمة وإنما كارثة ومواجهته لا تحتمل الإنتظار للبحث في أسباب اندلاعه بل المطلوب هو إطفاؤه أولا والفئوية حريق بدأ ينهش مجتمعنا من الداخل وبتسارع مخيف….ولا بد من وقفه بفعل رادع وحاسم وعاجل…..
الفئوية من حيث المبدأ تفكير بدائي والعصبية الفئوية سواء كانت قبلية أو جهوية أو عرقية أو إتنية هي التعبير الأبلغ عن عقل متخلف قاصر وعاجز عن فهم الواقع وعن سبر الآليات الأمثل لمواجهة مكامن الغبن والظلم وهو حس متخلف عن مسايرة الدولة و النظم المجتمعية المعاصرة….
ينشأ هذا الخطاب علي خلفية شعور بالحرمان أو الغبن أو إحساس بمجرد تخلف عن الآخر ولا يكلف أصحابه أنفسهم غالبا جهدا كبيرا لفهمه ويتغذي وينمو حين تستقيل الدولة عن لعب دورها في الإحلال محل هذه الإنتماءات الفرعية من حيث ضمان ظروف عيش أفضل وتوفير الأمن الإجتماعي من صحة وتوظيف وتأمين تقاعد للناس فيلجأون للأهل والعشيرة والربع وقد لا يجدون في ذاك اللجوء أكثر من مواساة نفسية …من قبيل لست وحدي من يشكو. !!! ويغذيه من فترة لأخري جشع السياسيين موالين ومعارضين حين يجعلونه عنوانا من عناوين الوعود التي يقسمونها يمنة ويسرة علها تدر عليهم مزيدا من الأصوات في الإستحقاقات الإنتخابية غير عابئين بما ينتج عن ذلك من تفكك وضياع…فلا صوت يعلو فوق صوت الصناديق….و في كل الأحوال يظل من يلوذ بالفئوية كالمستجير من الرمضاء بالنار…..
استفحل هذا الخطاب بعيد انقلاب العاشر يوليو حين بدأ حكم بلا برامج وجاءت سلطة لا تفكر كثيرا إلا بمنطق الغلبة و ينصب إهتمامها أكثر نحو مواجهة الخطر الكامن من الرفاق المغاضبين أو أولئك المتربصين…… كاد الخطاب الفئوي يخبو قبل ذلك التاريخ رغم قلة المتعلمين ساعتها ورغم سيطرة النظم المجتمعية غير المتماشية مع روح العصر….
في ظل حكومات يوليو الأولي ظلت تجليات الفئوية محصورة في توزير لهذه القبيلة وآخر لتلك وتبادل بين أخري وأخري واسترضاء مكون معين بحظوة معينة أو توفير فرص وظيفية لبعض الأهل والأقارب….. كانت السلطة ساعتها تبحث عن تأمين نفسها من الإنقلابات لا من الإنتخابات …..إلي أن جاءت ديمقراطية “خطاب لابول” وحكوماتها الباحثة عن شرعية الصناديق فأصبح لزاما عليها استرضاء كل من له جمع من الناس يقول بقوله…..تعددت العناوين داخل القبيلة وتعددت الشرائح داخل الشريحة وتوالدت الفئات من الفئات فأصبحت الدولة وإمكاناتها في خدمة هؤلاء “الناخبين الكبار” الذين يجيزون تأشيرة البقاء للحاكم وأصبح استرضاء هذا الجمع المتنوع والمختلف والمتخالف شريعة حكم لا غني لأي حاكم عنها ….
يتنامي هذا الخطاب بمنحني تصاعدي كلما تأزمت الظروف الإقتصادية والإجتماعية وحل الظلم محل العدل وكلما عاد بخير وحظوة لحامله ويتنامي أيضا كلما تراخت قبضة الدولة في تفعيل القانون وترسيخ روحه بين الناس توعية وتطبيقا وكلما تراجعت عن دورها في توزيع العدل في الخدمات وفي الفرص …….وقد شهد هذا الخطاب الكريه قفزات كبيرة في سنوات مضت حين كانت الدولة راعية له ومحتضنة لدعاته….بغض الطرف عما يقولون ويفعلون حينا و بدعمهم دعما مباشرا أحيانا و بترك القنوات التلفزيونية تتلهي ببث ما ساء من القول والفحش والفجور في حق العام والخاص الي أن أصبحت لغة الإنفصال رياضة ممتمعة يتلهي بممارستها البعض و يتلذذ بالتفرج عليها بعضنا الآخر وتصل إلي آخر ركن من البلاد ….وأصبحت المرافق العمومية أماكن يؤجرها هذا وذاك ليعلن عن ميلاد مبادرة بإسم القبيلة والفخذ والأسرة …..وجاء الواتساب والفيسبوك فتنشأ دويلات كراهية عبر مجموعات تضم عشرات الآلاف من المنتسبين والمستمتعين من كل الفئات وبشتي الأسماء والعناوين لكل منها رئيس وإداريون يقبلون ويقيلون يتبادلون الشتائم والوعيد ويستحضر كلهم ما كان من أيام العصبية الأولي ولا قاسم بينهم إلا نكء جراح ما مضي من غابر الزمن ولا يعتقد أحدهم في حاضر جميل ولا مستقبل آمن إلا بغروب الآخر عن عينيه …!!!!! لم يعد بهذه البلاد شيئا ممنوعا…
فما الحل اليوم ؟
معرفة الأسباب تعين كثيرا في تلمس الطريق الأمثل لمعالجة الإختلالات وأسباب هذه الظاهرة معروفة كما هي أسباب انتشارها ومكمن العلاج يكون في تجنب الأسباب التي دفعت لها وتلك التي كانت سببا في انتشارها…….
قد يتم تدارك هذا الخطاب وغيره من أسباب الفرقة من خلال:
-تطبيق الدستور نصا وروحا بقوة وحزم ورفض كل ما من شأنه تمييعه أو تجاوزه …..فالتهاون في تطبيق القانون الأساس رسالة سلبية لكل الذين قد لا يهمهم استقرار البلد كثيرا.
-رغم العنوان الذي قد يكون مستفزا في نظر البعض فإن القانون المعروف بقانون الرموز يحمل الكثير من الفقرات الرادعة المفيدة والتي لا بد من تفعيلها لتدارك هذا الإنفلات الرهيب في سلوك وعقول الناس الذي أصبح ثقافة تجعل من السب وسيلة للفت النظر وجني المزايا ومن احترام العرض مظنة للضعف و من هتكه عنوان رجولة وبطولة !!!!
-ينبغي كذلك أن تضطلع السلطة بمسؤولياتها كاملة غير منقوصة وفق التفويض الذي تحصلت عليه من الشعب وأن تبعث برسائل واضحة للجميع أن لا تشاور في أي أمر إلا ما كان ضمن الضوابط المعروفة ووفق آليات التفاعل المؤسسي بين مختلف السلط…..
امران حازا ثقة أغلبية هذا الشعب في استنطاق مباشر: الدستور ورئيس الجمهورية ……الأول قانون يجاز باستفتاء وهو القانون الأساس ولا يمكن تغييره إلا باستفتاء أيضا أو ببعض الترتيبات التي تتطلب المرور بكثير من المساطر المضنية لأن سهولة المساس به فيه له تتفيه والقانون الأساس أسمي من أن يكون التعرض له متاحا في كل حين ومن كل من كان…..والثاني تفويض شخص بعينه هو رئيس الجمهورية ليكون حاميا لهذا القانون وضامنا لحسن تطبيقه وحسن سير المؤسسات طيلة مأموريته.
يصبح الإمتثال لنصوص الدستور واجبا علي الكل يستوي في ذلك من صوت عليه بالرضا ومن عبر عن رفضه له…..ويصبح رئيس الجمهورية ملزما بالقيام بالإنابة التي فوضه الشعب بموجب الإقتراع المباشر…وهو وحده المسؤول أمام الناخب فإن أحسن صنعا في مأموريته حاز رضاه وقد يكافئه بمأمورية أخري وإن فشل فالشعب وحده من يحاسبه في أول استحقاق…..اللهم إن حصل شيئ في منتصف الطريق يستدعي إجراءات أخري قد تدخل ضمن صلاحيات السلطة التشريعية….ولا ينفع رئيس الجمهورية في تخفيف مسؤوليتة إن هو شارك فيها أحدا دراسة أو تنفيذا لأن الشعب فوضه لوحده دون سواه سياسيا كان أو غيره…..وسياسيو تعددية “لابول” لا تعنيهم كثيرا أنات الشعب وآلامه…. يبحثون عن آليات تشركهم في السلطة ولا تهمهم آليات تحمي نشاطاتهم في تبيان نواقص السلطة التنفيذية في تسيير الشأن العام……ويهتمون باللجنة المستقلة للإنتخابات مثلا أكثر مما يهتمون بتنظيم ملتقيات وندوات فكرية حول التعليم والثروات المتجددة وغير المتجددة وآفاق الأنشطة الإقتصادية ومراقبة الحكومة وحسن الحكامة و العدالة ومكافحة الرشوة والزبونية…..
-عدم تقديم أية مكافأة سياسية لمن يتبتي خطابا فئويا مهما كان نوعه ومهما كان حجمه.
– سن قوانين تمنع أي مواطن سبق وأن تفوه بقول فيه نفس فئوي من الترشح للبرلمان لمأمورية واحدة علي الأقل ومنعه كذلك من الترشح للمجالس البلدية ……حين يحس المرء أن فعلا ما قد تترتب عليه مضرة سيفكر مليا قبل الإقدام عليه.
– إلغاء المجالس الجهوية باعتبارها مأسسة لتنمية الحس الجهوي والقبلي وتغذية للنزعات الإنفصالية وللمحاصصة في الثروات كأن يقول البعض إن لنا حقا أوفر في الخيرات المستخرجة في حوزتنا الجهوية ويرد آخر بأن له هو أيضا ما لصاحبه من حقوقه في ثروته انتاجا أو مرورا أو تصديرا !!!! وقد سمعنا من البعض أن طالب بانفصال الشمال ومن البعض الآخر المطالبة بانفصال الجنوب والشرق …..وهذه المجالس قبل هذا وذاك استنزاف للموارد لا مبرر له إطلاقا ولا معني…
-ترقيم الولايات بدل تسمياتها الحالية التي تحيل لإنتماءات قبلية وجهوية بكل ما فيها من مخزونات التغاير وشُحن الأنا والتعريض بالآخر…..الدولة انتماء لا يقبل شريكا والمواطنة صفة لا يشتركها إلا من ينتمون للدولة الواحدة….
هذه إجراءات مستقبلية لكن الوضع الحالي يتطلب موقفا حازما وسريعا في وجه الجميع لأن مواجهة أسباب الحريق تأتي حتما بعد إطفائه …..فلنطفئ هذا الحريق الذي بدأت ألسنة لهبه تخرج من كل أركان البيت…..