تمخض الجبل ثلاثا، ولم يلد! (7)
أسئلة حائرة موجهة إلى "دفاع الطرف المدني"!
السؤال السادس: حول المادة 93 من الدستور (2)
استشارة الأستاذ الجامعي والمحامي الفاضل محمد محمود ولد محمد صالح.
توجد هذه الاستشارة منشورة بترجمة عربية تقريبية في موقع الأخبار بتاريخ 17 يوليو 2020 تحت عنوان “الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية السابق: عناصر توضيحية”. كما يوجد أصلها الفرنسي منشورا بنفس التاريخ في موقع Cridem.
وفي ديباجتها تبرز تساؤلات تشي صراحة بالهدف النهائي لها ومآلاتها المبيتة، وهي: “ما هو الوضع القانوني لرئيس جمهورية سابق؟ هل يتمتع بحصانة بخصوص الأفعال التي تمت في إطار ممارسة الوظيفة الرئاسية، وإذا كان الجواب بنعم، ما هي طبيعة وحدود هذه الحصانة؟ هل يتوفر على امتياز قضائي قد يحول دون محاكمته أمام المحاكم العادية؟ أم إنه مجرد مواطن كبقية المواطنين، مسؤول عما ارتكب من أفعال، في نفس الأوضاع كباقي المتقاضين؟ هل يجب التمييز أم لا يجب حسب طبيعة الأفعال التي قام بها خلال مأمورياته؟”. ثم تختتم بملاحظتين من نفس العيار وضعنا خط تشديد على محل الاستشهاد منهما، وهما:
– أنه “لا توجد في القانون الموريتاني – المقتبس مباشرة من القانون الفرنسي السابق على المراجعة الدستورية في 23 فبراير 2007، التي أوضحت الوضع الجزائي لرئيس الجمهورية- نصوص خاصة بالوضع القانوني والقضائي لرئيس سابق. فالوضع القانوني لهذا الأخير يحدد بالرجوع إلى الترتيبات الدستورية المتعلقة بمسؤولية الرئيس الموجود في السلطة، من ناحية، وإلى المبادئ العامة للقانون، من ناحية أخرى”.
– ارتباط البحث (في بعض أجزائه على الأقل) “بالسياق الحالي الذي يتسم بالبحث المحتمل عن مسؤولية رئيس الجمهورية السابق”.
وتتكون الاستشارة من ثلاثة أجزاء متناقضة، هي أولا: نقطة الانطلاق، وثانيا: المبادئ العامة للقانون كمرجع تكميلي، وثالثا: بعض الاعتبارات المرتبطة بالسياق الحالي بخصوص إمكانية البحث عن مسؤولية الرئيس السابق! لكن جوهرها تضمنه الجزء الأول الذي يبحث الترتيبات الدستورية المتعلقة بمسؤولية رئيس يمارس مهمات الرئاسة، وما لها من تبعات؛ الشيء الذي ترك الجزأين الثاني والثالث إما تكرارا لما ورد في الجزء الأول (في الجزء الثاني) وإما توصيات حول كون اللجوء في مساءلة الرئيس السابق “في كل الحالات، إلى القضاء العادي بدل المحكمة السامية قد يكون الخيار الأفضل”!
وقد جاء في الجزء الأول ما ملخصه بقضه وقضيضه: إن الترتيبات الدستورية وتبعاتها حول مسؤولية رئيس الدولة وهو يمارس السلطة بمقتضى المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991 تنص على أنه “لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعال قام بها في إطار ممارسته لوظائفه إلا في حالة الخيانة العظمى. ولا يمكن اتهامه إلا من قبل غرفتي البرلمان اللتين تبتان عبر تصويت مطابق لأعضائهما في اقتراع علني وبالأغلبية المطلقة… وتتم محاكمته من طرف محكمة العدل السامية”. ويشكل هذا النص نقلا حرفيا لنص المادة 68 من الدستور الفرنسي الصادر سنة 1958، وقد بقي دون تعديل حتى القانون الدستوري رقم 022 – 2017 الذي صدر بعد إلغاء مجلس الشيوخ فأبدل في الفقرة الثانية كلمة “غرفتي البرلمان” بكلمة “الجمعية الوطنية! حيث يمكن أن نقول إنه في الجوهر، بقي النص كما هو!
وبما أنه (أي نص المادة 93 من الدستور الموريتاني) استنساخ حرفي للمادة 68 من الدستور الفرنسي، فإن من المهم التذكير بما ورد من تأويل لهذا النص الأخير (المادة 68 من الدستور الفرنسي) من طرف المبادئ القانونية والفقه الفرنسيين.
وللتبسيط، من الممكن القول إن هذا النص “ذو الوضوح الكاذب” كان موضع تأويلين؛ الأول يقيم رابطا منطقيا مباشرا بين فقرتي – أو جملتي- النص، إذ يعتبر أن هذا الأخير يؤسس لمبدأ عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن جميع الأفعال التي قام بها خلال ممارسته لمهماته، باستثناء حالة الخيانة العظمى، وفي هذه الحالة، ينعقد الاختصاص الحصري لهيئة خاصة لمحاكمته؛ وهي محكمة العدل السامية. وتكون بذلك الفقرة الثانية من النص امتدادا منطقيا للفقرة الأولى. وبما أنه مسؤول خلال ممارسته لمهماته فقط في حالة الخيانة العظمى، فلا يمكن أن يحاكم الرئيس في هذه الحالة إلا من طرف محكمة العدل السامية.
إن عدم المسؤولية القانونية للرئيس عن الأفعال التي تتم خلال ممارسته لوظائفه؛ باستثناء حالة الخيانة العظمى، تستجيب عادة للحرص على حماية الوظيفة الرئاسية وتسهيل حرية تصرف صاحبها. وتُكَمَّلُ بعدم مسؤوليته السياسية أمام البرلمان. وفي نظامنا شبه الرئاسي، فلا الرئيس مسؤول من الناحية السياسية إلا أمام الشعب. بخلاف الحكومة (الوزير الأول والوزراء) ولا هو ملزم بأي شيء أمام البرلمان الذي لا يمكنه أن يستدعيه ولا أن يوجه إليه تحذيرا. وعليه فإن ما يصدق على البرلمان يصدق بالأحرى على الهيئات المنبثقة عنه، وبشكل خاص لجان التحقيق البرلمانية.
وبعد سردها المفصل الواضح لنص وروح المادة 93 من الدستور الموريتاني حول الوضع القانوني والقضائي لرئيس الجمهورية الموجود في السلطة، والتأكيد الوارد في الديباجة على أن نفس تلك الترتيبات تحكم الوضع القانوني والقضائي لكل رئيس سابق! تفاجئنا الاستشارة بقفزها على جميع تلك الاعتبارات وضربها بها عرض الحائط، والقول: ومع ذلك فالنص الدستوري لا يقدم أجوبة مباشرة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بمسؤولية رئيس الجمهورية. إذ تحصر المادة 93 من الدستور الموريتاني، كنموذجه الفرنسي، عدم مسؤولية رئيس الجمهورية في “الأفعال المقام بها أثناء ممارسته لوظائفه” باستثناء الخيانة العظمى!
ولإشباع نهم سياسي آني في تحميل رئيس الجمهورية مسؤولية لم يحمله إياها دستور بلاده وعزله عن قضاته الطبيعيين، وسدا لـ”فراغ دستوري” وهمي بتأويلات باطلة لنص أجنبي يتعلق بوقائع أجنبية لا علاقة لها بالواقع الموريتاني، درجت الاستشارة في اتجاه معاكس تماما لنصي المادتين 93 و68 من الدستورين الموريتاني والفرنسي! فقالت:
“إن الفقرة الثانية بمعزل عن الفقرة الأولى (من المادة 68 من دستور 1958) قد تؤسس لامتياز قضائي (بالرجوع إلى محكمة العدل السامية) بخصوص كل الأفعال التي يقوم بها رئيس لا يمارس السلطة حتى تلك التي لا يمكن أن توصف على أنها خيانة عظمى. لقد تم تكريس هذا التأويل من طرف المجلس الدستوري الفرنسي سنة 1999 (مؤكدا أن المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية لا تمكن إثارتها قضائيا خلال فترة ممارسته لوظيفته إلا أمام محكمة العدل السامية) وهو الموقف الذي رفضته بقوة الجمعية العامة لغرف محكمة النقض الفرنسية 2001 والتي اعتبرت (أن محكمة العدل السامية ليست مختصة البتة إلا في الحكم في الأفعال التي تشكل خيانة عظمى) وكذلك وفق الأغلبية الساحقة من فقهاء القانون؛ بما فيهم أولئك الذين شاركوا في كتابة المادة 68 من دستور 1958 كالأستاذ جان افوايي (Jean Foyer)”! “وبالمقابل بمفهوم المخالفة (خط التشديد منا) فإن رئيس الجمهورية مسؤول عن جميع الأفعال الأخرى التي قام بها في ممارسة وظيفته الرئاسية. وينطبق ذلك، ليس فقط على الأفعال الخصوصية لهذا الأخير (أفعال الحياة المدنية، الشؤون الخاصة) بل – وبالأخص- على الأفعال المقوم بها بصفته رئيسا للجمهورية، لكنها أفعال يمكن فصلها عن الوظيفة الرئاسية نفسها بسبب مضمونها أو غايتها؛ فالفقه القانوني (الفرنسي طبعا) مجمع على اعتبار أن “الأفعال القابلة للفصل” ليست مشمولة بمبدأ عدم المسؤولية، وأن رئيس الجمهورية مسؤول من الناحية القانونية والشخصية عن تلك الأفعال (كما ذكر ذلك بجدارة صديقي ذ. لو كورمو في مداخلته الأولى). ويمكن أن تشمل هذه الأخيرة حالات خرق القانون؛ خاصة المخالفات الجزائية المرتكبة من قبل رئيس الجمهورية تحت غطاء الوظيفة الرئاسية، لكن دون ربط مباشر وقريب مع هذه الأخيرة، لأنها تخدم هدفا وإطارا خصوصيا. وتميز غرفة الجرائم بمحكمة النقض الفرنسية بهذا الخصوص منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، فيما يتعلق بممارسة الوظيفة الرئاسية، بين الأفعال التي لها علاقة مباشرة مع هذه الأخيرة؛ والتي تبرر اختصاص محكمة العدل السامية والأفعال الأخرى، وبالأخص الأفعال المقوم بها فقط بمناسبة ممارسة الوظيفة الوزارية، والتي تخضع – هي الأخرى- للقانون العام. ويدخل في إطار هذه الأفعال كل ما له علاقة بالثراء الغير شرعي والفساد”.
وهكذا ولدت نظرية “الأفعال المنفصلة” و”اختصاص القضاء العادي في محاكمة رؤساء موريتانيا السابقين واللاحقين من رحم الفقه الفرنسي على أيدي علمائنا أعضاء “دفاع الدولة” بصفتها أبرز إنجاز يتحفوننا به من الغرب، رغم مخالفتها الصريحة لنص المادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية! ولا غرو في هذه الحالة إن واجهك أحد القضاة الثلاثة وهو في بداية السلم الوظيفي بقوله: “لدينا قراءتنا الخاصة للمادة 93”! فالشاعر يقول:
إذا كان رب البيت للدف ضاربا ** فلا تلم الصبيان يوما على الرقص.
تلك هي عصارة تلك الاستشارة التي حال استعصام مقدمها في مؤتمر لفيف “دفاع الدولة” دون تسليط مزيد من الأضواء عليها، وكذلك تواطؤ أساتذة القانون الدستوري إن وجدوا مع الغاية السياسية الآنية على حساب الدولة والحق والقانون!
ومن أبسط المآخذ الواضحة على تهافت مآلات هذه الاستشارة ما يلي:
1. مخالفتها الصريحة لنص المادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي تعترف بوجودها وببقائها دون تعديل، وكذلك مخالفتها لنص المادة 68 من دستور 1958 الفرنسي التي تدعي أنها هي الأصل!
2. تعليلها لما ذهبت إليه من تأويل مخالف لنص صريح واضح الدلالة، ليس بخلاف الأولى فحسب؛ بل بـ”بمفهوم المخالفة” (Cela implique a contrario)!
3. لجوؤها في تبرير ما أفتت به من “آراء” إلى تأويلات نص أجنبي تم تعديله باعترافها سنة 2007 على ضوء وقائع لا تمت بصلة إلى الواقع الموريتاني!
4. اعتمادها فيما اعتمدته من “فقه” و”تأويل” و”مبادئ” على “ما ذكره بجدارة صديقي ذ. لو كورمو في مداخلته الأولى”! مع العلم أن الأستاذ الفاضل لو غورمو غير مختص (كغيره؛ وأنا منهم) بالقانون الدستوري، ومشهور ومعترف على أمواج bbc بالعداوة لمن أفتى في حقه، ثم إنه – فوق هذا وذاك- أحد أعضاء “دفاع الدولة” (اشْهودَكْ يَا أمَيْنَاطْ)!