تمخض الجبل ثلاثا، ولم يلد! (12)

أسئلة حائرة موجهة إلى "دفاع الطرف المدني"!

السؤال التاسع: في تاريخ موريتانيا وعلاقة رؤسائها بالمال.
أنا وعميدي ونقيبي الأستاذ إبراهيم ولد أبتي تربطنا صداقة حميمة عمرها – هي الأخرى- أربعون سنة! ظلت خلالها أواصر المودة ووشائج القربى تنمو بيننا وتتعزز رغم جميع تحديات وعوادي الزمن: حلبنا الدهر أشطره، وصهرتنا المحاماة وعشق الوطن، والدفاع عن الحقوق والحريات، ومحاربة الفساد والذب عن المال العام!
لم نكن وحدنا طبعا في معمعان النضال الوطني الديمقراطي؛ بل كنا ضمن كوكبة من خيرة فرسان مهنة المحاماة النبيلة {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع} ويغيظ الطغاة.. ولها أيام كتبت بماء الذهب ذكرها – وسيذكرها- التاريخ: النقباء يعقوب جالو، جابرا معروفا، محفوظ ولد بتاح، والأساتذة يربه ولد أحمد صالح، عبد القادر ولد محمد سعيد، الحسن ولد المختار، إبراهيم ولد ادي، أحمد ولد يرگيت وآخرون ممن شهدوا أيام انواكشوط المعدودات، وأيام انواذيبو وكيهيدي ولعيون وواد الناگه! وكنا – إبراهيم وأنا- كما قال الأعشى:
“رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ** بأسحم داج عوض لا نتفرق”.
لحد قولهم عنا إنك إذا رأيت أحدنا أمامك فاعلم أن الثاني واقف بجنبك أو متمترس بصاحبه!
… وكنا قد خرجنا لتونا يوم فتنة المرجعية من أتون انتخاب نقيب ومجلس الهيئة الوطنية للمحامين حيث كان مترشحا، فدعمته. ولسوف أدعمه من جديد إذا ترشح لمأمورية، – أو مأموريات- أخرى!
وحين اندلعت فتنة المرجعية المشؤومة وفشا إفك “فساد العشرية” المنحوس، اختلفنا.. ولم يفسد خلافنا للود بيننا قضية!
ورغم اختلاف أدوارنا، وتناقض آرائنا في هذه المعركة الوطنية المصيرية، فإنني عندما أراه يتحدث عن قضايا مثل تاريخ موريتانيا وعلاقة رؤسائها بالمال العام، وودائع الرئيس السابق لدى رجال الأعمال، أو يفتى بجواز مصادرة الخزينة العامة لممتلكات الرجل ومحيطه العائلي والاجتماعي دون أن يضع أي اعتبار لقداسة “حق الملكية” ولانعدام البينة على ما يدعيه، لا أستطيع إلا أن أصغي إليه جيدا، وأحاوره بالحق فيما ذهب إليه من باطل! وذلك لعلاقتنا الوطيدة، ولتعلق الأمر بنقض ما جمعنا حينا من الدهر مما لا تزال جذوره ضاربة في العمق! ولارتباط حديثه بما دأب عليه مؤخرا من تحامل على موكلي ظلما وعدوانا! وسوف أناقشه هنا مُكْرَهًا في ثلاثة أمور هي:
أولا، في قوله: “فإنكم عندما تنظرون تاريخ موريتانيا منذ سنوات 1960 تجدون أن لا أحد من رؤسائها كانت بينه علاقة مع المال. ولأول مرة نجد رئيسا لموريتانيا يصرح علنا بأنه ثري، وأنه لم يلمس راتبه قط وأنه تركه لزوجته”.
فأنا أتفق تماما مع نقيبي وصديقي على نظافة يد الرئيس المختار ولد داداه! خاصة إذا كان المغزل عليه هنا هو ذكره بخير! ولكنني لا أوافقه في باقي أطروحته “التاريخية”! إذ كيف ننسى – وهل يجوز أن ننسى- ما جرى في وطننا غداة العاشر من يوليو، حين نهبت مؤسسات ومرافق الدولة نهبا ممنهجا، فجيء على الأخضر واليابس!
“حين جاس المغول نهبا وسلبا ** وانتهاكا وعاث جنكيز خانا
لجنـة بعد لجنـة بعـد أخــرى ** نخرتنــا طبيعـــة وكيــــانا”.
ثم كيف يمحو تراكم وتعدين وتشريع الفساد من ذاكرتنا ممارسات سنوات الجمر حيث كان الشعب الموريتاني كله بماله وعرضه وأرواح وحريات أبنائه نهبا وسيبة لجميع المفسدين.. ونحن على ذلك من الشاهدين!
و”الفترة الانتقالية”! وما أدراك ما الفترة الانتقالية؟
كيف ننسى أو نتناسى جميع تلك الحقب السود، ولا نتذكر ونذكر بسوء إلا عشرية ولد عبد العزيز الوطنية المجيدة؟ وما السبب في ذلك؟ نعم. من حقنا تماما أن نغار ونغضب لضياع حقوق الشعب ونهب أمواله وانتهاك حرياته وأعراضه. ولكن ليس من حقنا ومهما كان السبب، أن نختزل ذلك في فترة حكم ولد عبد العزيز، ونحاول أن نؤصله ونفرد له تاريخا غير تاريخي؟
وهب جدلا، وجدلا فقط، أن ولد عبد العزيز نهب مليارات من أموال الشعب لم نجد عليها بينة سوى تصريحه بأنه ثري! فماذا عن نحو أربعة آلاف مليار “لعبت خيلها” اليوم تحت راية “محاربة الفساد” و”نفير جيش المحامين دفاعا عن أموال الشعب المنهوبة”! وما تزال فضائح نهبها تترى كل يوم على صفحات الإعلام وباعتراف كل من مفتشية الدولة ومحكمة الحسابات، وتوجد أدلتها الناصعة على صفحات المواقع والمدونين؟ أليست هي الأخرى أموال الشعب؟ ولماذا يتجاهل نهبَها جيشُ المحامين المدافعين عن أموال الشعب المنهوبة؟ أم من المنطق والعدل أن نتبع – ونحن في هذا العمر- ازدواجية المعايير، ونكيل بمكيالين؟
ثم أيهما أقرب للتقوى: الرئيس “الثري” الذي يتكتم على ثرائه ولا يلمس أوقية من راتبه، وقد لا يتركه لزوجته وأولاده؛ بل يكنزه أو يبدده في سبيل الشيطان، أم الرئيس “الثري” الذي يعترف بثرائه على رؤوس الأشهاد ولا يجد في ذلك غضاضة أو حرجا؟ والثراء ليس جريمة كما أسلفنا مرارا وتكرارا!
وثانيا، في قوله: “إن رجال أعمال جاؤوا وقالوا هذه مليارات أودعنا إياها ولد عبد العزيز”!
فالحكاية في الواقع ليست كذلك! وقد تمت – كغيرها من الانتهاكات- بتوجيه من صديقي الذي أفتى “المحققين” بـ”جواز الصلح بين النيابة والمتهمين في أمريكا”! صحيح أن رجال أعمال اعتقلوا وعذبوا وأكرهوا على الاعتراف بالباطل إنقاذا لجلودهم ولأموالهم، ورأس المال جبان. وقد تم ذلك في مخافر الشرطة، واستخدمت فيه أساليب قذرة، ومن وراء ظهر القضاء على علاته، ودون مراقبة منه، ولم يعذر فيه للمتهم حتى يومنا هذا! لكن، هل نسي “دفاع الدولة” وهو يتخذ من هذه الواقعة بينة قاطعة تغطي عجزه عن تقديم بينته على دعواه “أن الإقرار خاضع للسلطة التقديرية للقاضي” وأن المادة التمهيدية من قانون الإجراءات الجنائية تقول إنه “لا يعتد بالاعتراف المنتزع تحت التعذيب أو العنف أو الإكراه”؟ ثم أولا يرى معي صديقي ونقيبي في مجال بحثهم الدائب عن “أموال الشعب المنهوبة” الوهمية، وغضهم الطرف عن النهب الحقيقي الجاري ليل نهار أمام أعينهم، أن الشرطة السياسية التي أشرفت على هذه العملية قد فرطت في استرجاع “أموال الشعب المنهوبة” حين احتالت على رجال أعمال أغنياء وأرهبتهم حتى بلغت قلوبهم الحناجر، وابتزتهم، ولم تستطع في الأخير – حسب قولها- أن تسلبهم غير هذا المبلغ الزهيد؟!
وثالثا، في مجال فتواه التي يقول فيها: “جميع المعلومات المتوفرة اليوم؛ والتي وردت في قرار غرفة الاتهام، قرار الإحالة الذي تم تسريبه ونشرته جريدة الأخبار يتكلم عن مبالغ ضخمة حصل عليها هذا الشخص. فإما أن تكون كل هذه الأموال له، فالقانون المتعلق بمكافحة الفساد ألزمه بتبرير مصادر كل هذه الأموال. وإما أن تكون لغيره فهذا يسهل القضية. فقد وضعت اليد على هذه الأموال وتأخذها الخزانة العامة”.
فلدي ثلاث ملاحظات على هذه الفتوى الغريبة العجيبة وهي:
– أن ما نسب فيها لقانون مكافحة الفساد من “إلزام بتبرير مصادر كل هذه الأموال” غير صحيح. فقانون مكافحة الفساد (سواء في ذلك الاتفاقية الدولية، والقانون الموريتاني الذي نفتخر بنسخه منها حرفيا) لا يلزم بتبرير مصادر أمواله إلا الموظف الذي أدين بأدلة قطعية من طرف هيئة قضائية مختصة وفي محاكمة عادلة بارتكاب جريمة فساد! وهذا “الإلزام” لا يمكن أن يحل محل بينة عجز من هو مطالب بها عن تقديمها؛ عكس ما يدعيه على رؤوس الأشهاد فرقاء النيابة والتحقيق ودفاع الدولة في هذا الملف، ولا ينطبق على الرئيس السابق بحال من الأحوال. ذلك أن رئيس الجمهورية ليس موظفا عموميا من جهة، ولأنكم لم تستطيعوا حتى الآن أن تأتوا ببينة على ارتكابه فعلا مُجَرَّما من جهة أخرى، فلجأتم إلى ما أطلق عليه زورا وبهتانا “ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي، أي إن عبء الإثبات في هذه الحالة يرجع إلى المتهم، فهو من عليه إثبات مصدر شرعي لثروته الطائلة” (الصفحتان 24 و25 من “كتاب” الإحالة). ولا أدل على داحضية هذه “الحجة” من مخالفتها المطلقة لصريح المادة 13 من الدستور التي تنص على أن الأصل هو البراءة؛ وبالتالي فإن عبء الإثبات يقع على مدعي غيرها، والشك يفسر لصالح المتهم. وقد ورد في مذكرة تعقيبنا “كتاب الإحالة” ما يلي: “وتطبيقا للمقتضيات السابقة فقد قضت محاكم كبرى حول العالم ببراءة متهمين بالثراء غير المشروع وجهت لهم تلك التهمة استنادا إلى نصوص تشريعات مكافحة الفساد، لعدم دستورية هذه النصوص؛ ومن ذلك قرار محكمة النقض المصرية رقم 80342 بتاريخ 27 /4/ 2004 الذي جاء في إحدى حيثياته: “حيث وجدت محكمة النقض بأن الأصل في المتهم البراءة، وأن إثبات التهمة قِبَله يقع على عاتق النيابة العامة التي عليها وحدها عبء تقديم الدليل على ارتكاب المتهم للجريمة؛ حيث لا يملك المشرع نقل عبء الإثبات إلى المتهم، خلافا لهذا النص الدستوري والذي تم تأييده من قِبَل المشرع نفسه في قوانين الإجراءات الجنائية”. وتقول حيثية أخرى من القرار نفسه: “ولما كان الحكم المطعون فيه إذ دان الطاعن الأول لعجزه عن إثبات مصدر مشروع لما طرأ على ثروته من زيادة لا تتناسب مع موارده يكون قد أخطأ في تطبيق القانون لأنه قام على افتراض ارتكاب المتهم للفعل المؤثم وهو الكسب غير المشروع لمجرد عجزه عن إثبات مصدر الزيادة في ثروته، وكان الحكم المطعون فيه إذ دان المتهم بناء على هذا الافتراض الظني وقلب عبء الإثبات مستندا إلى دليل غير مشروع وقرينته فاسدة تناقض الثوابت الدستورية التي تقضي بافتراض أصل البراءة ووجوب بناء الحكم بالإدانة على الجزم واليقين لا على الافتراض والتخمين، فإنه يكون مستوجبا النقض ومن ثم يتعين نقض الحكم المطعون فيه وإعلان براءة الطاعن الأول مما أسند إليه”!
– أن ما “يسهل القضية” في نظره حين يقول: “وإما أن تكون (أي الأموال المحجوزة) لغيره فهذا يسهل القضية، فقد وضعت اليد على هذه الأموال وتأخذها الخزانة العامة” هو قول غريب جدا، ولا يسهل القضية؛ بل يعقدها أكثر، لمخالفته لجميع قوانين السماء والأرض، ولخرقه السافر لنص المادة 15 من الدستور التي تقول: “حق الملكية مضمون…”! إذ كيف يفتي رجل قانون، تحت أي ظرف من الظروف، بأن يؤول ملك الغير إلى الخزانة العامة بمجرد رفع دعوى على غيره. ولاتزر وازرة وزر أخرى؟!
– أن هذه الفتوى تندرج تحت مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”! ولا علاقة لها – كغيرها- بالقانون ولا بمبادئ العدل! بل هدفها سياسي ونفعي. سياسي وهو تكريس إقصاء الرئيس السابق عن ممارسة السياسة عن طريق تبييض اتهامه بالباطل وإدانته وحرمانه من حقوقه المدنية ومصادرة ممتلكاته وممتلكات ذويه! ونفعي يصب في مجرى تبرير الأتعاب وضمان حصيلة لا بأس بها تحفز المستفيدين من المادة 47 من قانون مكافحة الفساد على! ولكن هل يعلم الجميع محامين وقضاة أن براءة اختراع مصادرة ممتلكات ولد عبد العزيز ليست ملكا لهم؛ بل هي مسجلة باسم عميد المرجعية بتاريخ 12 أغسطس 2020 الذي صرح للأخبار يقول: “لن نقبل أن ينافسنا عزيز بأموال وثروات الشعب الموريتاني قبل أن يصدر القضاء حكمه في الملفات التي اتهمت الرئيس السابق بالفساد”!
نحن باگيين اعلى الأثر؟!
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى