موريتانيا فوق القمم..
محمد السالك إبراهيم
هنا نيروبي حاضرة الشرق الإفريقي العظيمة، التي تزهو اليوم باحتضان قمة القمم.. وهي ثلاث قمم هذه المرة.. قمة إفريقيا والبنك الدولي، حيث تستضيف حكومة كينيا رؤساء الدول الأفريقية والبنك الدولي لمناقشة الأولويات الرئيسية للتمويل في أفريقيا ودعم عملية تجديد تمويل طموحة لموارد المؤسسة الدولية للتنمية العتيدة المعروفة اختصارا ب IDA..
وهنا قمة ثانية رمزية، برسم دول القارة الإفريقية التي جاءها فخامة رئيس الجمهورية، الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، مبتسما لهذا الطفل الكيني اللطيف الذي استقبله بباقة ورد عند سلم الطائرة؛ جاء فخامته ليمثل هذه القارة ويعبر عن آمالها وتطلعاتها في هذا المنتدى التنموي الهام..
وهنا أيضا قمة ثالثة في أعالي الطبيعة حيث تتجسد الروعة والجمال الخلاب للقارة الافريقية، التي يمثلها جبل “كليمانجارو” الأشم في تنزانيا المجاورة، والذي لا يبعد عن هنا سوى بضع مئات من الكلومترات، شامخا بزهو وخيلاء، وهو يضع عمامته الثلجية الناصعة البياض..
هنا حيث ينبع النيل وينطلق متهاديا، مانحا الماء و والخصب والزرع و الحياة، عبر طريقه وهو يشق الأراضي الافريقية البديعة التي يمجدها الكاتب الغيني الشهير كمرا لاي، في روايته Enfant noir “طفل أسود” التي تعتبر ترنيمة للأرض الإفريقية. حتى ولو كان الإهداء لأمه، إلا أن الرواية هي أيضا ترنيمة للمرأة الإفريقية الخالدة وللقارة الإفريقية التليدة، أمنا الأرض الإفريقية..
وأنا أشاهد فخامة رئيس الجمهورية يبتسم في وجه ذلك الطفل الأسود الإفريقي بالمعاني النبيلة التي يستبطنها “كمرا لاي” في رائعته المشار إليها، تذكرت الشاعر الكامروني “فيكتور ريالدو” و ديوانه “إفريقيتي” Mon Afrique حيث يمجد في هذه المجموعة الشعرية أصالة أفريقيا وعراقة شعوبها، ويحثها على التوحد لتشرق أرضهم أم الدنيا، من خلال الدعوة إلى المحبة وكسر الحواجز وتجاوز الخلافات بين الشعوب.
وأمام هذا المشهد، تذكرت أيضا أنشودة الشاعر السنغالي “دافيد ديوب”، التي يقول في مطلعها: Afrique, Mon Afrique
“إفريقيا، يا افريقيتي..
أفريقيا الأجداد المحاربين الفخورين في السافانا..
أفريقيا التي تغنيها جدتي!
على حافة نهرها البعيد..
غادر الموكب الرئاسي قاعة الشرف الكبرى في المطار، متوجها إلى مقر الإقامة في مركز المدينة العملاقة.. نيروبي نموذج لوسط حضري- ريفي متميز في الالتزام الإيكولوجي وصداقة البيئة.. هنا تتعايش الطبيعة مع الحضارة في تناغم بديع.. الفضاءات الخضراء هي سيدة الموقف.. و ناطحات السحاب تخرج لك من بين أشجار الأجمة..
ولكنها بدأت تمطر ونحن مازلنا في الطريق.. صحيح أن الجو غائم جدا منذ هبوط الطائرة، لكني كنت آمل أن أحظى بلحظات صحو مفاجئ علني أشاهد ولو من بعيد قمة “كيليمانجارو”.. الجبل الأسطورة.. هلباء، هلباء.. ذلك الجبل الأشم ، الأغر، الفيدح، الخيعم، الذي طالما “سردح” علوا فوق سطح إفريقيا كلها.. تذكرني صورته والفيلة والزرافات تدب حوله، بكتاب القراءة للمدارس الابتدائية في سلسلة المعهد البيداغوجي لإفريقيا ومدغشكر IPAM.
وليس جبل “كليمنجارو” البركاني هو فقط أعلى قمة في القارة الإفريقية ولكنه أيضا هو شيخ الجبال الإفريقية العملاقة مثل جبل كينيا و أوزبارا ولفنجستون في أوغندا وجبال روينزوري وكادام التي تصب كلها في بحيرة “فيكتوريا” بعد أن تذوب ثلوجها.. لتصب البحيرة نفسها في نهر النيل الخالد..
نيروبي التي تعني بلهجة مجتمع “الماساي” “المياه العذبة”، هي في الأصل أرض مستنقعات تقطنها ثلاثة مجتمعات محلية هي “الماساي” الرعاة و”أكامبا” المستقرون، إلى جانب “الكيكويو” المزراعين..
نشأت البلدة في أواخر القرن التاسع عشر مع وضع سكة حديد أوغندا. وتم تحديد الموقع من قبل السير “جورج وايتهاوس” كبير مهندسي السكك الحديدية البريطانية، ليكون بمثابة مستودع تخزين ومكان تخييم للعمال الهنود العاملين في السكك الحديدية. وتقع نيروبي التي أصبحت عاصمة البلاد منذ الإستقلال، على ارتفاع حوالي 1700 متر عن سطح البحر.
في الفندق ، سارعت إلى إزاحة ستائر غرفتي في الطابق الخامس عشر، لعلني أحظى برؤية ولو من بعيد، جبل كينيا الذي يقع شمال نيروبي، كما أني أتطلع طبعا إلى رؤية جبل “كليمنجارو” الأبعد نحو الجنوب الغربي. فلطالما حلم زوار نيروبي بحظوة مشاهدة القمتين معا بالمنظار الذي يعتبر هنا جزء من عدة الشاي والتخييم.. لكن هيهات.. وسريعا ما اتضح لي بأن ذلك لم يكن ممكنا في مثل هذا اليوم الغائم الماطر..
قيل لي بأن أفضل مكان لرؤية جبل “كليمنجارو” الواقع داخل تانزانيا المجاورة، انطلاقا من جمهورية كينيا، هو محمية “أمبوسيلي” الوطنية قرب نيروبي.. غير أن الوقت وظروف العمل لا يسمحان بذلك..
لكن، ألا يكفينا فخرا أن موريتانيا فوق القمم في نيروبي؟